في رحيل الجبل الراسخ: الشيخ جعفر شيخ إدريس .. عقل الدعوة وروحها

في رحيل الجبل الراسخ: الشيخ جعفر شيخ إدريس .. عقل الدعوة وروحها
بقلم د. عصام أحمد البشير
الحمد لله القائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
بقلوب يعتصرها الألم، وعيون تفيض بالحزن، ورضًا بقضاء الله وقدره، تلقينا خبر وفاة شيخنا فقيد العلم والدعوة، ومربي الأجيال، وحجة الفلسفة الإسلامية، وموسوعة الفكر المقاصدي، العلّامة الدكتور جعفر شيخ إدريس، الذي لبّى نداء ربه بعد عمرٍ مديدٍ حافلٍ بالعلم، والدعوة، والنُصح، والربانية، والعطاء الذي لا ينضب.
الحُزنُ يُقلِقُ وَالتَجَمُّلُ يَردَعُ
وَالدَمعُ بَينَهُما عَصِيٌّ طَيِّعُ
لقد كان الشيخ جعفر شيخ إدريس، رحمه الله، أمةً وحده في الجمع بين التكوين الأصيل في العلوم الشرعية، والتمرس العميق في الفكر الفلسفي، والتأسيس المتين في المناهج النقدية. عرفتُه – وما زلت أذكر تلك اللحظة الأولى – شمسًا تُشِعُّ بنور العلم، وسِراجًا وهاجًا في ميدان الفكر والدعوة والتجديد.
خمسة عقودٍ من المحبة والوفاء والتعلم والاعتبار جمعتني به، زادني فيها منه علمًا وأدبًا، وكان لي فيها شيخًا وأستاذًا وموجهًا ومؤنسًا، تفيض روحه بنقاء العقيدة، ويتوهّج عقله بحرارة البرهان، ويزدان منطقه بجمال البيان، ويعلو خلقه برفعة الإيمان.
كان الشيخ جعفر من القلة النادرة التي تمكّنت من مخاطبة الفطرة والعقل معًا، ومن الغوص في لُباب القضايا الفكرية والفلسفية دون أن يفقد دفء الروح، ولا وهج الإيمان. لم يعرف التكلّف، ولا استعرض بضاعةً، بل كان عالمًا إذا تكلم سكت أهل الضوضاء، وإذا كتب أخرس صدى الفارغين.
في حياته، جال في البلاد؛ شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، ينشر الحكمة، ويؤسس لمعالم الوعي الإسلامي الرشيد. خرجت من تحت عباءته أجيالٌ من العلماء والمفكرين والدعاة، وتشربت روحه محاريب التربية، ومنابر الدعوة، ومجالس البحث، ودوحات الفلسفة.
وكان من آثار هذا العالم الفذ، أن ترك للمكتبة الإسلامية مؤلفات راسخة، تمثل بحقّ لبنات فكرية في مشروع النهضة الإسلامية الواعية. من أبرزها كتابه الشهير “الفيزياء ووجود الخالق” الذي أقام فيه برهانًا علميًا دقيقًا على وجود الله في ضوء تطورات الفيزياء الحديثة، وكتابه العميق “الأسس الفلسفية للمذهب المادي” الذي نقض فيه دعائم الفلسفة المادية الغربية، وكتابه “نظرات في منهج العمل الإسلامي” الذي وُصف بأنه من أنضج ما كُتب في مراجعة المسار الإسلامي الدعوي، وكتابه “الإسلام لعصرنا” الذي بشّر فيه بإسلام معاصر راسخ في الأصول، حيّ في الواقع. وقد تميّزت هذه المؤلفات كلها بجمال العبارة، وعمق الفكرة، وأصالة المنهج، ونفَس المربي المصلح.
لقد جمع رحمه الله بين العقل البرهاني والتديّن الرباني، وبين قوة الحجة ولين الجانب، وبين عمق الفكرة وتواضع العالم، وبين شراسة الرد على الباطل ورحابة الصدر للمخالف.
وما أظنّ فكرًا معاصرًا في نقد التغريب، وتفنيد الفلسفات المادية، وتقريب مقاصد الشريعة للجيل الجديد، إلا وقد نهل من مداده، أو انطلق من أطروحته، أو تأثر بعلمه وفهمه.
وخلف الشيخ رحمه الله ذريةً طيبةً من البنين والبنات، ربّاهم على مكارم الأخلاق، ومحبة العلم، والصدق في الدين، وهم: عبدالرحمن، وعبدالمنعم، ويوسف، ومنال، وقد عرفته – عن قرب – أبًا رؤوفًا، ومربّيًا حانيًا، يغرس في نفوسهم معاني الخير، ويؤسسهم على الاستقامة والمروءة، كما عوّدهم الترفع عن سفاسف الأمور، والارتباط الوثيق بالحق حيث كان، والاعتزاز بهويتهم الإسلامية.
لقد فقدته السودان أمّةً ورمزاً، وفقدته الأمة عَلَماً من أعلامها البارزين، الذين قلّ أن يجود الزمان بأمثالهم. وإني لأبكيه اليوم، كما يبكيه كلُّ تلميذٍ أحبّه، وكلُّ قارئٍ وُقِف على كتبه، وكلُّ من عرفه جليسًا أو سمعه خطيبًا أو قارعه حجةً.
وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا على فراقك – يا شيخنا ومعلمنا – لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا:
“اللهم اجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وارفَع درجته في عليين، واجعل علمه وعمله صدقةً جارية، وألحقنا به في الصالحين غير خزايا ولا مفتونين.”
﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
✒️ د. عصام أحمد البشير
الجمعة 23 محرم 1447 هـ
الموافق 18 يوليو 2025 م