عامقضايامقالاتمقالات تربوية

“فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”: غزة تجسد الوعد الإلهي بالصبر واليقين.

أ. محمد العوامي

في خضم الأمواج المتلاطمة من المحن والشدائد، تبرز آيات القرآن الكريم كمنارات هدى ومصابيح أمل، تضيء دروب الصابرين وتثبّت قلوب المؤمنين.
ومن أعظم هذه الآيات وأكثرها لمسًا للواقع الإنساني، قوله تعالى في سورة الشرح: “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)”.
هذا الوعد الإلهي المكرر ليس مجرد تسلية للمحزونين، بل هو قانون كوني وتوجيه تربوي عميق، نرى تجلياته اليوم بأوضح صورة في صمود أهلنا في قطاع غزة.

● غزة: حيث العسر يبلغ منتهاه
لا يمكن لأي وصف أن يحيط بحجم “العسر” الذي يعيشه قطاع غزة. فالأزمة الإنسانية قد وصلت إلى مستويات كارثية، حيث أكدت تقارير دولية متواترة، بما في ذلك تصنيفات الأمن الغذائي المتكامل (IPC)، أن المجاعة قد أصبحت واقعًا في محافظة غزة، مع توقعات بتوسعها. يعاني السكان بالكامل من انعدام حاد في الأمن الغذائي، ويواجه أكثر من نصف مليون شخص ظروفًا كارثية من الجوع والموت.
البنية التحتية انهارت والمستشفيات والمدارس لم تعد أماكن آمنة، بل أصبحت أهدافًا للقصف المستمر الذي يعطل عمل الطواقم الطبية ويجعل الوصول للرعاية الصحية شبه مستحيل. تتحدث الأرقام عن مأساة تفوق الخيال، حيث استشهد عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وأصيب مئات الآلاف منذ بدء العدوان. لقد أصبحت غزة، بحسب تعبير الأمين العام للأمم المتحدة، “مقبرة للأطفال”.
ومع استمرار النزوح القسري لمئات الآلاف، تتفاقم المعاناة وسط نقص حاد في الماء والغذاء والمأوى. وقد خلص تقرير للأمم المتحدة إلى أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.

□ التوجيهات التربوية من الآية في قلب المعاناة:
أمام هذا المشهد القاتم، كيف يمكن فهم وعد الله باليسر؟ هنا تبرز التوجيهات التربوية للآية الكريمة كمرتكز للصمود الأسطوري الذي يبديه أهل غزة:
1. الأمل والتفاؤل: نور في نهاية النفق
تبعث هذه الآية في قلب المؤمن الأمل والتفاؤل، فهي تؤكد أن اليسر يأتي بعد العسر، وأن الفرج ملازم للشدة. وهذا يغرس في نفس المؤمن الثقة برحمة الله وعونه مهما اشتدت الظروف. قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (البقرة: 214).
إن صمود أهل غزة بحد ذاته هو أعظم رسالة أمل بأن روح الشعب لا يمكن كسرها.

2. الصبر والثبات: سلاح المؤمن الأقوى
تؤكد الآية على أهمية الصبر والثبات عند مواجهة الشدائد. فالحياة الدنيا مليئة بالعسر والابتلاءات، ولكن النصر والفرج دائماً ما يكونان من نصيب الصابرين. قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} (النحل: 127). إن ما نشهده في غزة ليس مجرد تحمل للمعاناة، بل هو صبر إيجابي فعال. صبر يتجلى في الثبات على الأرض ورفض مخططات التهجير القسري، رغم كل جرائم الحرب والإبادة الجماعية الموثقة في تقارير أممية. لقد أثبت أهل غزة أن الإيمان بالقضية أقوى من أعتى الآلات العسكرية.

3. اليقين بوعد الله: وقود الصمود
تدعو الآية إلى اليقين بوعد الله تعالى. التكرار في قوله “إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا” ليس حشوًا، بل هو توكيد لترسيخ اليقين في قلب المؤمن. هذا اليقين هو ما يجعل الأم الثكلى تحتسب ابنها شهيدًا، وهو ما يدفع الأطباء لمواصلة عملهم في أحلك الظروف. إن الثقة المطلقة بأن هذا العسر سيعقبه يسر من الله هي الوقود الحقيقي الذي لا ينضب لهذا الصمود.

4. الدعاء والرجوع إلى الله: السعي والدعاء
تُعلمنا الآية ضرورة اللجوء إلى الله والدعاء له في كل حال، وخاصة عند الشدائد، فالله قريب يجيب دعوة الداع إذا دعاه. قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} (البقرة: 186).
الآية لا تدعو إلى التواكل، بل إلى الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله. فأهل غزة لم يستسلموا، بل قاوموا بكل ما أوتوا من قوة، وفي الوقت نفسه، لا تفتر ألسنتهم عن الدعاء واللجوء إلى الله.

● اليسر قادم ويتجلى
إن قصة غزة اليوم هي التفسير الحي لآية “فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. وهي تذكير بأن العسر، مهما بلغ من القسوة والظلام، يحمل في طياته بذور اليسر.
إن فهمنا لـ “اليسر” في الآية الكريمة يجب ألا يقتصر على الانتصار العسكري المباشر فحسب، بل يتجاوزه إلى يسر معنوي وتاريخي عميق يتبلور في خضم المعاناة. فمن أعظم صور اليسر التي تجلت في غزة:
* اليسر الروحي (نقاء الصف): حيث أفرزت الشدائد أجيالاً أكثر تمسكاً بقضيتها وإيمانها، موحدة القلوب على رفض التنازل والتهجير. هذا النفير الإيماني الداخلي هو يسر لا يقدر بثمن.
○ اليسر التاريخي (كشف الحقيقة): لقد كان هذا العسر سبباً في انكشاف حقيقة الظالم أمام الرأي العام العالمي بأكمله، وتحول مظلومية غزة إلى قضية عالمية تزلزل الجامعات والبرلمانات. هذا التحول الهائل في الوعي العالمي هو يسر عظيم للحق.
○ اليسر الإنساني (إيقاظ الضمير): أصبحت غزة بوصلة الإنسانية والحرية في العالم، ملهمةً حركات التضامن التي لم يسبق لها مثيل، ومُعلِّمةً العالم دروساً في البذل والاحتساب. هذا اليسر هو الانتصار الأخلاقي الذي لا يمكن للآلة العسكرية أن تسحقه.
☆ إن صمود أهل غزة ليس مجرد قصة معاناة، بل هو ملحمة إيمانية وبطولية، تضع على عاتقنا جميعًا مسؤولية دعمهم ومساندتهم، والعمل من أجل أن يأتي “اليسر” الذي وعد الله به عباده الصابرين. فبعد كل هذا العسر، لا بد لليل أن ينجلي، ولا بد للفجر أن يبزغ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى