فرحات الهوني
أحيانا يضيق الإنسان ذرعًا من عتاب أصحابه وأحبابه، ويرى ذلك مثلمة في العلاقة بينهم، وهذا تفكير خاطئ فالعتاب لا يكون إلا ممن يريدون أن يحافظوا على وصالهم معك ويحبون أن تستمر علاقتك معهم، ولا يكون بعد العتاب هجر إنما زيادة في المحبة والألفة بينكم، وإزالة كل ما يكدر صفو العلاقة..
يقول الرافعي رحمه الله: “المودة القوية تتحمل العتاب والمحاسبة لتثبت أنها قوية”.
ويقال إن الزاهد ابن السماك، لما قال له صديقه: غدًا نتلاقى لنتعاتب، هذه الكلمات عدها ابن السماك هفوة أو زلة تعكر صفاء قلب صديقه، فرد عليه ابن السماك: بل غداً نتلاقى لنتغافر.
وقد استعمل القرآن الكريم ألطف الألفاظ وأرقها في معاتبات رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبصور متعددة للعتاب ومنهجاً وسطياً معتدلاً لا مغالاة فمن ذلك:
كما يقول الدكتور مصطفى مسلم في مقاله (عتاب الله لنبيه في القرآن)
1- في قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾ [عَبَس: 1 – 2] ،جاء الكلامُ بصيغة الغائب، وكأنَّ الكلام عن شخص غائب، وحادثة بعيدة جرَت لأشخاص يتحدث عنهم، ثم تحوَّل الخطابُ مباشرةً إلى رسول الله: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ﴾ [عَبَس: 3 – 7]؛ حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم لابن أم مكتوم كلما أقبل ويقول “مرحبا بمن عاتبني فيه ربي عز وجل”
2-ومثل ذلك ما جاء في عتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخذ الفداء من أسرى بدر؛ إذ جاء الخطاب بصيغة الغائب: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67]، ثم جاء الخطاب المباشر وبصيغة الجمع، وعتابُ المجموع أخفُّ وطأةً على النفس من عتاب المفرد المعيَّن: ﴿ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ﴾ [الأنفال: 67]، ﴿ لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [الأنفال: 68].
3-وفي سورة الكهف جاء التوجيه الربَّاني لتعليم الأمة من خلال قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف: 23 – 24] ، وذلك بعد حادثة سؤال قريش له – بتلقين من اليهود – أسئلةً تعجيزية، وقال: ((ائتوني غدًا، وسأُخبركم به))، ونسِي أن يقول: إن شاء الله، ولم يأتِ هذا التوجيه قبل الإجابة عن بعض الأسئلة، وإنما جاء بعد سرد الجواب عن السؤال الأول، ولو جاء الجواب فيما بعد، فلن يُخفف من وطأة العتاب أو التوجيه، فتقديم جواب السؤال أولًا، وحصولُ الانتعاش والطمأنينة للنفس، يقضي على أثر العتاب، ويُبقي الأمر في حدود التذكير والتعليم.
4- وفي سورة التحريم: لَما كان الأمر يتعلق بالتحليل والتحريم وهو تشريع، والتشريع يكون من قِبَل الله جلَّت حكمته، وقد يتبادر إلى الذهن أن هذا التصرفَ الاجتهاديَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد وصل إلى حدٍّ يخشى عليه من سلب مقام النبوة عنه، فجاء الخطاب بصيغة: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ﴾ [التحريم: 1]، فأدخلت الطمأنينة إلى قلبه أنه النبي ذو المكانة والمقام العظيم عند ربه، وإنما يسدِّده ربُّه إلى ما هو الأَولى في شؤون التشريع للأمة، وأن الموضوعيَّة في التشريع ورعاية مصالح الأمة هي الغاية، وليس التشريع لإرضاء رغباتٍ فرديَّة في المجتمع.
5-وفي عتابه بشأن الإذن للمنافقين بالتخلُّف، وقَبول أعذارِهم، قدَّم العفوَ عن الموقف قبل ذكرِ الموقف وسببِ العتاب؛ لإدخال الطمأنينة على قلبه الشريف: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 43].”
لا تُعاتب إلّا على شيءٍ يستحقّ. لا تجعل من العتاب منهجًا لك في الحياة، ولا يكون العتاب سمة بين الأخوين كلما التقيا فيكون هو ديدنهم والإسراف فيه، العتاب لا يكون إلا في الأمور التي تحتمل ذلك وليس في كل الأمور، فالحكمة تقول “كثرة العتاب تورث البغضاء” ، فالعتاب المكفهر من كثرته ومن شدة لهجته وجفوته على أبسط الأسباب التي يمكن تجاوزها، وقد أمرنا الله سبحانه أن نقول للناس حسنا فما بالك بالذي بيننا وبينهم مودة ومحبة
يقول الأستاذ المربي الفاضل أحمد محمد الراشد في كتابه العوائق: “فلماذا التعاتب المكفهر بين الأخوة؟ كل منهم يطلب من صاحبه أن يكون معصوماً، أليس التغافر أولى وأطهر وأبرد للقلب؟ أليس جمال الحياة أن تقول لأخيك كلما صافحته: رب اغفر لي ولأخي هذا، ثم تضمر في قلبك أنك قد غفرت له تقصيره تجاهك؟ وأظهر من ذلك خيراً لو قدم المستعتب بين عتبه مقدمة تفسير، فيطمئن صاحبه أنها جلسة تصارح وتغافر، لا معركة تناحر، وأنه يريد أن يفرغ ما في صدره أمام كفؤ له وحبيب ترويحاً للقلوب، وقطعاً لمحاولات الشيطان، لا التماساً لسبب هجر، ولا تفكيراً باتهام.”
واسمع للخادم الصغير أنس بن مالك – رضي الله عنه -وهو يقول: “خدمت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين لم يقل لشيء فعلته لم فعلت، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلته”.
وهذا وهو صغير مظنة وقوع الخطأ منه أعظم من مظنتها في كبير واع.
يقول الدكتور خالد سعد النجار في مقاله (كثرة العتاب تفرق الأحباب) “من أحسن ما روي في التغافل (عن العتاب)، فعل نبي الله يوسف عليه السلام لما ذكر أمر ما وقع من إخوته – بعد وعده لهم أنه لا تثريب عليهم – قال: {وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100]. ولم يقل: من بعد أن فعل إخوتي ما فعلوا من محاولة قتلي أو التخلص مني وحرماني من أبي أو حرمانه مني، وإنما نسب الفعل إلى الشيطان، بل وبدأ بنفسه فقال: {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} حتى لا يكون هناك تلميح ولو من بعيد بأن الشيطان أتى من ناحيتهم.”
يقول المتنبي: “فإن الرفق بالجاني عتاب”
وقال الثعالبي – رحمه الله -: قال بعض البلغاء: العتاب حدائق المتحابين، وثمار المتوادين، والدليل على الضنِّ بالأخوَّة.
فما أجمل أن تكون صيغ وكلمات العتاب بين الأحباب معبرة وموحية وممزوجة بالحب والعطف والشفقة على محدثه؛ لتنفذ هذه النصائح والكلمات إلى قلبه فيتأثر بها ويعمل بمقتضاها.
❖ فليكن لسان حال الذي يعاتب كقول الشاعر بهاء الدين زهير:
وأعتبكمْ على ما كانَ منكمْ……..عتاباً ينقضي والودُّ باقي.
❖ ولسان حال المعتذر كقوله:
عَتَبتُمْ فلَم نَعلَمْ لطيبِ حديثِكمْ………….أذلِكَ عَتْبٌ أمْ رِضًى وَتَوَدّد
ونختم بقول أحد الحكماء يقول: “أكثر ما يخيفني ليس العتاب، بل توقفه، عندما يعفيك الشخص من عتابه، فهو يعفيك من أن تكون شيئًا يعنيه، شيئًا مهمًا في حياته؛ فلا تفرح بصمته وهدوئه، لربما دل ذلك على أنك أصبحت على مقربة من أن تكون لا شيء عنده”.
ولهذا فقد حجب الله العتاب بينه وبين أهل النار -والعياذ بالله- ، قال تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) [سورة الروم 57]…وقال: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [سورة فصلت 24].
لأن العتاب لا يكون إلا بين الأحباب، ولا يكون بعده إلا التغافر، والمغفرة، والعفو….وهذا الأصل.