كيف أثَّر البعد الشرعي عند عمر المختار في تحديد خياراته السياسية؟
فرج كُندي
المولد والنشأة
وُلد الشيخ عمر المختار عام 1277هـ/ 1860م في منطقة البطنان بقرية جنزور بالقرب من مدينة طبرق في شرق ليبيا.
نشأ في بيت عز وكرم تحوطه الشهامة والحرية متأثرًا بمظاهر الفروسية؛ ما بعث فيه حب التضحية والأنفة من الخضوع إلى من لم يجعل له دينه سلطانًا؛ فهو سليل قبيلة المنفة العريقة المنتمية إلى المرابطين من أشراف ليبيا.
التكوين والتحصيل العلمي
حين بلغ المختار السن التي تؤهله لحفظ القرآن الكريم أرسله والده إلى الزاوية السنوسية بالجغبوب ليتم حفظه للقرآن الكريم ويأخذ على شيوخها العلوم الشرعية التي كانت تدرَّس لطلبة العلوم الشرعية في ذلك الوقت.
وقد ظهرت عليه علامات النجابة والفطنة ورجاحة العقل؛ ما لفت إليه انتباه السيد المهدي السنوسي (1844 – 1902)، رئيس الحركة السنوسية وخليفة مؤسسها الأول الإمام محمد بن علي السنوسي (1787 – 1859)؛ فجعل منه موضع اهتمام، وأصبح الشاب عمر المختار محل عنايته ورعايته لإعداده لمهام جسام ومسؤوليات تؤهله لمرحلة قيادية كبيرة في وقت لاحق من تاريخ حركة الجهاد ضد الغزو الفرنسي في إفريقيا ثم الغزو الإيطالي لليبيا.
حفظ المختار القرآن الكريم على شيخه الزروالي المغربي الجواني، في حين كان أستاذه في علوم الشريعة واللغة الشيخ العلَّامة أورييت فالح بن محمد بن عبد الله الطاهري المدني صاحب التعليقات على كتاب «المنهل العذب في تاريخ طرابلس الغرب» للعلَّامة ابن غلبون.
تولي مهام التدريس ونشر الدعوة
بعد أن أتمّ حفظه للقرآن وأتم تحصيله من العلوم الشرعية وفي التفسير واللغة والحديث بزاوية الجغبوب كبرى الزوايا السنوسية ومركز الحركة ومعقلها الرئيس، ورأى فيه شيخه المهدي السنوسي أنه أهل لتحمل مسؤولية تبليغ الدعوة ونشر العلم الشرعي مع المقدرة على تحفيظ القرآن الكريم لأبناء المسلمين وتدريس ما يفيد الناس من علوم الشريعة في حياتهم اليومية؛ من تبيين الحلال والحرام وفروض الشريعة من عقيدة وصلاة وزكاة وحج وصيام وجهاد في سبيل الله؛ فولَّاه مشيخة زاوية القصور بالقرب من مدينة المرج شرق بنغازي بنحو 90 كيلومترًا.
نجاحه في مهمته بزاوية القصور بالمرج
قام الشيخ المختار بتنفيذه المهمة التي كلفه بها شيخه المهدي السنوسي في زاوية القصور، وحقق نجاحًا كبيرًا زاد من مكانته لدى شيخه الذي سُر بتلميذه بعد أن بلغته أخبار المختار بقيامه بتعليم أبناء القبائل المحيطة بزاوية القصور مع قيامه بواجب الضيافة وحسن استقبال الزوار وأبناء السبيل، وكل من يلوذ بالزاوية أو يأوي إليها خائفًا أو محتاجًا أو في طريق سفر أو طالب علم.
ولِما تميز به المختار من حكمة ورجاحة عقل، وبما تحلى به من أخلاق سامية هذبتها القيم الإسلامية التي تلقاها في الزاوية السنوسية على يد شيوخه، وما أخذه من سمت أستاذه الإمام المهدي السنوسي، حقق المختار نجاحًا كبيرًا على المستوى الاجتماعي من خلال اتباع سياسة اجتماعية حكيمة قائمة على خلفيته الشرعية التي تعلمها في زاوية الجغبوب في فض المنازعات بين القبائل لما حظي به من احترام وتقدير وإجلال العامة ومن الرؤساء معًا.
كما استطاع أن يرسخ مبادئ الأخوّة الإسلامية بين القبائل، وجعل من القيم الإسلامية بديلاً لحل المشكلات التي تقع بين أبناء القبائل على حدود الأراضي أو آبار المياه والتنازع في البيع والشراء والميراث، وكل ما يتعلق بحياة الناس كبديل عن الحلول العرفية التي قد تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، وسار في مصالحهم سيرة حسنة جعلته محل احترام وتقدير من الوجهاء والعقلاء، ولا يقدمون قول أحد على قول المختار، وأصبح اسمه يتناقل على ألسنة الناس، ويُذكر بالخير والفضل في كل الربوع المحيطة بزاوية القصور التي يتولى مشيختها المختار.
ثقة السنوسي بالمختار
حين سافر المهدي السنوسي إلى السودان وتشاد وما جاورهما عام 1312هـ/ 1894م لمهام كثيرة، منها مقاومة المستعمر الفرنسي الذي احتل مناطق شاسعة من إفريقيا وأخذ في التوجه شمالًا بعد سيطرته على بحيرة تشاد وأخذ في الزحف نحو الشمال مع حملة شرسة ضد الزوايا السنوسية في المنطقة.
كان الشيخ المختار على رأس قائمة الرجال المرشحين لصحبة المهدي في هذه الرحلة الطويلة الشاقة التي تحتاج إلى رجال أصحاب كفاءة وخبرة وصبر وجلد اختارهم المهدي بعناية ليكونوا في صحبته.
سافر المختار في ركب شيخه المهدي السنوسي الذي أصبح محل ثقته ومعقد آماله لِما رأى فيه من خصال الرجولة والنجابة والإخلاص لدينه وأمته ودعوته التي انتمى إليها ونشأ وترعرع في كنفها؛ فنال ثقته وثناءه عليه حتى إنه كان يقول في أكثر من موقف ومناسبة: لو كان عندنا عشرة مثل عمر المختار لاكتفينا بهم.
ثم ولاه المهدي في السودان وتشاد وما جاورها مشيخة زاوية كتلك التي استمر فيها نائبًا للمهدي ومرشدًا وداعية للإسلام، ومعلمًا لأولاد المسلمين إلى أن رجع إلى برقة –شرق ليبيا– عام 1321هـ/ 1904م، فعاد شيخًا لزاوية القصور للمرة الثانية التي استمر يدرس القرآن الكريم والعلوم الإسلامية لطلابه فيها، بالإضافة إلى دوره كحكيم ومصلح في ربوع المنطقة إلى بدايات الغزو الإيطالي لليبيا عام 1329هـ/ 1911م.
لتبدأ مرحلة مهمة في خيارات عمر المختار السياسية كان للبعد الشرعي أكبر الأثر فيها، سوف نتناولها في مقال لاحق بإذن الله.