مقالاتمقالات فكرية

كُليات الشريعة أم جُزئياتها؟

د. أبوبكر محمد العيش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله…
من ضمن الإشكالات المطروحة على ساحة البحث الأصولي عامة، والبحث المقاصدي خاصة؛ إشكالية (الكُلّي والجُزئي)، ويُقصد بالكُلّي: القاعدة المقاصدية الجامعة، أو المقصد الكلي المستفاد من استقراء الجزئيات، سواء كان عامًّا في كل الشريعة أو خاصًّا في باب من أبوابها، ويُقصد بالجزئي: كل دليل جُزئي دلّ على حُكم معيّن.
ويتوجه النظر في هذه المسألة إلى مدى تأثير أحد الدليلين -الكُلّي والجُزئي- في الآخر وحُكمه عليه، والسؤال الذي يُطرح في هذا السياق: هل علم المقاصد يؤدي إلى التقليل من قيمة الجزئيات، ومن ثم سوف يتحرر الناس من مراعاة النصوص الجزئية وذلك من خلال الاحتكام إلى الكليات المقاصدية؟.
وللإجابة عن هذا الإشكال لا يُمكن تجاوز رائد النظرية المقاصدية (الإمام الشاطبي- رحمه الله)، وقد عالج هذه القضية بشكل واضح في عدة مواضع من كتابه (الموافقات)، فتناولها في القسم الأول من كتاب المقاصد، تحديدًا في المسألة الأخيرة من مسائل النوع الأول: (في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة)، ومن كلامه: « كما أنه إذا ثبت قاعدة كلية في الضروريات أو الحاجيات أو التحسينات فلا ترفعها آحاد الجزئيات، كذلك نقول: إذا ثبت في الشريعة قاعدة كلية في هذه الثلاثة أو في آحادها فلا بد من المحافظة عليها بالنسبة إلى ما يقوم به الكُلّي، وذلك الجزئيات، فالجزئيات مقصودة معتبرة في إقامة الكلي أن لا يتخلف الكُلّي فتتخلفَ مصلحته المقصودة بالتشريع، (…) الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكُلّي، لم يصح الأمر بالكلي من أصله؛ لأن الكُلّي من حيث هو كُلّي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجه القصد إليه من حيث التكليف به توجه إلى تكليف ما لا يطاق وذلك ممنوع الوقوع».
ثم تناول المسألة بتفصيل أكثر في كتاب (الأدلة الشرعية)، تحديدًا في المسألة الأولى من الطرف الأول: (في الأدلة على الجملة)، ومن كلامه: ” …مُحال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلاً في جزئي، مُعرضًا عن كُلّيه؛ فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي، مُعرضًا عن كُلّيه؛ فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضاً عن جزئيه”، ثم يُردف الكلام موضحاً حُجته في ذلك، ويُمكن تنسيق هذه التوضيحات والحُجج في عدة نقاط:
1- تلقِّي العلم بالكُلّي إنما هو من عَرْض الجزئيات واستقرائها؛ وإلا فالكُلّي من حيث هو كُلّي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات، ولأنه ليس بموجود في الخارج، وإنما هو مُضمّن في الجزئيات حسبما تقرر في المعقولات؛ فإذن الوقوف مع الكُلّي مع الإعراض عن الجزئي وقوف مع شيء لم يتقرر العلم به بعد دون العلم بالجزئي، والجزئي هو مُظهر العلم به.
2- الجزئي لم يوضع جزئيًا؛ إلا لكون الكُلّي فيه على التمام وبه قوامه، فالإعراض عن الجزئي من حيث هو جزئي إعراض عن الكُلّي نفسه في الحقيقة، وذلك تناقض.
3- الإعراض عن الجزئي جملة يؤدي إلى الشك في الكُلّي من جهة أن الإعراض عنه إنما يكون عند مخالفته للكُلّي أو توهم المخالفة له، وإذا خالف الكُلّي الجزئي مع أنّا إنما نأخذه من الجزئي؛ دلَّ على أن ذلك الكُلّي لم يتحقق العلم به؛ لإمكان أن يتضمن ذلك الجزئي جزءًا من الكُلّي لم يأخذه المُعتبِر جزءًا منه، وإذا أمكن هذا؛ لم يكن بُدّ من الرجوع إلى الجزئي في معرفة الكُلّي، ودلّ ذلك على أن الكلي لا يعتبر بإطلاقه دون اعتبار الجزئي، وهذا كله يؤكد لك أن المطلوب المحافظة على قصد الشارع؛ لأن الكُلّي إنما ترجع حقيقته إلى ذلك الجزئي كذلك أيضًا؛ فلا بد من اعتبارهما معًا في كل مسألة.
4- إذا ثبت بالاستقراء قاعدة كلية، ثم أتى النص على جزئي يخالف القاعدة بوجه من وجوه المخالفة؛ فلا بد من الجمع في النظر بينهما لأن الشارع لم ينص على ذلك الجزئي إلا مع الحفاظ على تلك القواعد، إذ كلية هذا معلومة ضرورة بعد الإحاطة بمقاصد الشريعة ؛ فلا يمكن والحالة هذه أن تخرم القواعد بإلغاء ما اعتبره الشارع، وإذا ثبت هذا؛ لم يمكن أن يعتبر الكلي ويلغى الجزئي.
والخلاصة من كلام الإمام الشاطبي تُحيل على ضابط مُهم جداً عند إعمال مقاصد الشريعة، مُفادُه: أن «مقاصد الشرع ليست بحد ذاتها دليلاً مستقلاً عن الأدلة الشرعية شأنها شأن الكتاب والسُّنة والإجماع والقياس، حتى يصبح بناء الأحكام الجزئية عليها وحدها كما يتصورها بعض الباحثين، وإنما هي معنى كُلّي استُخلص من مجموع جزئيات الأحكام المأخوذة من أدلتها ومصادرها الشرعية»، وهي ترتبط مع الأدلة الجزئية بعلاقة تكاملية متوازنة، لا يستغني فيها الدليل الجزئي التفصيلي عن التوجيه المقاصدي الكُلّي، ولا يُقصي فيها الدليل الكُلّي المقاصدي الدلالةَ الراجحة من الدليل الجزئي التفصيلي، بل كلٌّ منهما يتكامل مع الآخر ويُعضّدُه.
ولهذا التكامل مع الأدلة الجزئية مظاهر وأدوار عدة لا يَقصِد سياقُ هذا المقال إلى تفصيلها، من ذلك: دورها في الترجيح ورفع التعارض الظاهر بين الأدلة الجزئية، ودورها في فهم الحكم الشرعي وتوجيه النص الجزئي إليه، ودورها في اعتماد الأخبار وتصحيحها، إلى غير ذلك من الأدوار التكاملية التي يقتضيها إعمال المقاصد الكُلّية في وجود الأدلة الجزئية وحالة توافرها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى