لكل عصر اصنامه
سامي عامري
لكل عصر أصنامه التي تهفو إليها جماهير الناس، عامتهم وخاصتهم حتى في الأزمنة التي يثور فيها الناس لهدم الأصنام المتصدرة والأوثان المبجلة ، فإن ثورتهم تلك- في الحقيقة – ليست سوى استبدال أصنام بأصنام ، ولكل عصر بعد آخر لا فِتاته وقُدّاسُه وحرمه . وهؤلاء إذا رُدوا إلى حقيقة ما تشربّتهم قلوبهم من صنمية، اعترضوا وشاكسوا وادعوا التحرر من كل قيد أرضي؛ رغم أن القيود نفسها لا تزال تكبلهم، وإن تغير الاسم.
وشعار؛؛ أن أؤمن بالعلم؛؛ صنم من اصنام العصر ، يعلوا به صنم العلم بقية الأصنام حتى لا تمسه يد لأنه ؛ الأعلى ؛ والحاكم على كل شيء . وهو تطرف وغرور دفع الصحفي الأمريكي أن يكتب مقالة منذ شهرين بعنوان ( أنا لا أؤمن بالعلم ) قال فيها ( قد يستخدم بعض الناس جملة : ( أنا أؤمن بالعلوم) كعبارة مختصرة غامضة ؛ لإظهار الثقة في قدرة الطريقة العلمية على تحقيق نتائج جيدة أو ربما للتعبير عن الرأي القائل إن الكون تحكمه قوانين طبيعية يمكن اكتشافها من خلال الملاحظة والتفكير. لكن الطريقة التي يستخدمها معظم الناس اليوم- وخاصة في السياق السياسي – هي عكس ذلك إلى حد كبير. إنهم يستخدمونها كوسيلة لإعلان الإيمان بمقترح ما خارج عِلمِهم ولا يفهمونه… والمقصود بعبارة ” أؤمن بالعلم” استخدام سمعة العلم عموما لمنح سلطان لدعوى علمية على وجه الخصوص، حمايتها من التساؤل أو الشك.
( أنا أؤمن بالعلم )، ذلك هو شعار من يرفع أجندة أيدولوجية مادية دهرية. وعصرنا ككل عصر، تنتهبه الشعارات البارقة التي يلتحفها كل فريق، وهي تزين مقولات عقدية وقيمية، وسلوكية لترفع شأنها بحق أو ترفع خيستها بباطل. وكثيراً ما تخدع هذه الشعارات السائرين بلا رؤية في مواكب الأفكار والمذاهب؛ فيستهويهم مذاق الحاو من الكلام، واللاّمع من الدثار.. وقد رفع الناس قديما – تأثرا بفريق من الفلاسفة اليونان – شعار العقل، وبوأوه مرتبة العصمة، ونافروا به خصومهم، ورموهم بتهمة الخرافية أو الحشوية. ورفعوه لاحقا في ثورة ” الفكر الحر” في أوربا عصر الأنوار في القرن الثامن عشر؛ فهو الهادي الأوحد في طريق طلب المعرفة بالعالم وما وراءه، بديلا عن الوحي ولاهوت الكنيسة. واستعلن بهذا الشعار- خاصة – فلاسفة الربوبية كفولتير وتوماس باين، والعقل زينة – بلا ريب- ولكن معرفة حقيقة العقل، ونهايات آفاق نظره، وحدود مدركاته، تمنع إلباسه ثوب العصمة أو احتكاره سبيل المعرفة. ولا يكفي بذلك رفع شعار العقل لتحصيل الأمان من الوقوع في الزلل وحيازة البراءة من كل خلل.
وقد أسست الثورة العقلانية – تاريخيا – للنزعة العلموية التي ترفع صنم؛ العلم الطبيعي؛ فلا صنم معه. ثم تفرق العلميون الملاحدة – لاحقا – في آخر التاسع عشر إلى إلحاد علموي يمثله الكونتيون، وأنصار الداروينية الاجتماعية، وإلحاد إنسانوي أوسع أفقا من العلمويين، وإن كان لا يقل عنه حدة. وتضخمت وعود العلم حتى ما عاد لها حد في عالم الفهم والوعي، وعالم الفعل والكسب.
وفي أول القرن الواحد والعشرين عاد العلم الطبيعي بقوة ليكون المعيار الأوحد للمعرفة – أو معيار الحكم على بقية مصادر المعرفة – على يد أنصار ما يعرف بالإلحاد الجديد؛ باعتبار العلم فضيلة عظيمة يشفى فيها عليل الجهل، ويرتوي بها العليل الذي يطلب رواء الفهم.
والعلم في تاريخ البشر له بريقه، وجاذبيته؛ فقد دنت به اللذات، وأطفئت به الجوعات، وصار الحلم بعده واقعا. وذاك امتداد لما كان في القرن التاسع عشر حيث ظهر لأول مرة في التاريخ تيار إلحادي منظم، وكان شعار العلم فيه- مع العقل- من أعظم ملامحه، وعنوان المرحلة: العلم والدين لا يلتقيان؛ وقبول العلم يلزمنا رد الدين.
وتميزت المرحلة الأخيرة للعلموية بدخول علماء الطبيعة باب الجدل الفلسفي (رغم ضعف عامتهم في باب النظر الفلسفي، بل وحتى في باب القراءة في الفلسفة)؛ ووجدت كتابات البيولوجي ” داوكنز” وعالم الأعصاب ” سام هاريس” والفيزيائي ” لورانس كراوس” رواجا كبيرا، وفُتحت لهؤلاء الكتاب منابر لمخاطبة النخبة والعامة.
والعلموية في خطاب دعاة الألحاد الجديد تعرِض جنة بديلة لجنة الأديان؛ فإن العلم هو قوة النماء البشري في كل باب واتجاه، وفي أسفاره أجوبة كل أسئلتنا أو جلها. وما عجز العلم عن جوابه اليوم، في رحم الغد جنين خبره. إن العلم – عند هؤلاء – يعلم السر وما هو أخفى من السر، ووعوده بالخير لا تنقطع .. هو باب للمعرفة محايد، وناجع، وناصح أمين…!
ونحن وإن كنا لا ننكر فضل تعلم العلم، ونفرح بكثير من مخترعات العصر، إلا أننا نرى العِلموية أكبر من الكشوف والمخترعات؛ إنها نظرة إلى الكون لا تطابق العلم دلالة، وإنما تتخذ العلم مجنا لبث دعاوى ميتافيزيقية بريئة من الشاهد التجريبي؛ ولذلك فخصومتنا مع العلموية محلها القول في الأصول المعرفية والتوظيف الأيديولوجي، لا في نعمة العلم، وفضيلة محاربة المرض وطلب الرواء ودفء الكساء …
- عن كتاب: العلموية .. الإلحادية للعلم في الميزان