لماذا تتمسك “قسد” بالدوغمائية؟ قراءة في الفكر والممارسة

أ.خليل البطران
في المشهد السوري المتصدع، تبرز “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) بوصفها فاعلًا سياسيًا وعسكريًا مؤثرًا في الشمال الشرقي من البلاد. وقد قدمت نفسها للعالم باعتبارها قوة “تحررية” تتبنى قيم الديمقراطية والتعددية، إلا أن الممارسة على الأرض، سواء في الخطاب أو في البنية التنظيمية أو في السلوك السياسي، تشير إلى ظاهرة فكرية واضحة: الدوغمائية، أي الانغلاق الأيديولوجي ورفض التعدد والمراجعة.
فلماذا تتمسك “قسد” بهذا النمط المغلق؟ وهل هو خيار أيديولوجي أم ضرورة سياسية؟ وما العواقب المحتملة على مشروعها ومحيطها؟
الدوغمائية: مفهومها وخطورتها
الدوغمائية، في أبسط تعريفاتها، هي التمسك المطلق بالأفكار أو المعتقدات، ورفض مراجعتها أو نقدها، حتى في ضوء الأدلة المعاكسة. إنها موقف فكري مغلق، يتعامل مع الأفكار بوصفها “حقائق مقدسة”، ويقصي من يخالفها، ويصادر أي محاولة للمساءلة أو التعدد.
ورغم أن هذا النمط شائع في الأيديولوجيات المتطرفة أو الأنظمة الشمولية، إلا أنه قد يظهر أيضًا في كيانات تُقدّم نفسها بلبوس ديمقراطي، وهو ما ينطبق على “قسد” إلى حد بعيد.
أولًا: مظاهر الدوغمائية في تجربة قسد
تقدم “قسد” نفسها ممثلًا شرعيًا ووحيدًا لمناطق واسعة من الشمال الشرقي السوري، متجاهلة وجود قوى عربية وكردية وسريانية وتركمانية لا تتفق مع رؤيتها. هذا الاحتكار السياسي يعبّر عن ذهنية إقصائية، ترى التعدد تهديدًا، وليس فرصة للحوار والبناء.
2. الانغلاق الأيديولوجي
رغم الخطاب المدني الظاهري، تستند “قسد” إلى فكر عبد الله أوجلان كمرجعية مطلقة، يتم الترويج لها في المناهج والتعليم والإعلام. ولا يُسمح بنقد هذا الفكر أو اقتراح بدائل، بل يتم التعامل معه كعقيدة فوق المساءلة، مما يحول المشروع من “إدارة ذاتية” إلى “مرجعية مؤدلجة“.
الناشطون أو السياسيون المحليون الذين يعبّرون عن اعتراض على سياسات “قسد”، سواء من المكون العربي أو الكردي، يتعرضون للتضييق أو الاعتقال أو النفي السياسي، في مشهد يعيد إنتاج منطق السلطة الأمنية، لا منطق التشاركية.
فرض نموذج واحد للحكم
تحاول “قسد” تعميم نموذج “الإدارة الذاتية” على مناطق مختلفة ثقافيًا وديموغرافيًا، دون حوار جاد مع المجتمعات المحلية. وبدلًا من احترام الخصوصيات، يجري فرض النموذج بشكل فوقي، ما يثير التوتر ويعزز الانقسام المجتمعي.
ثانيًا: لماذا تتمسك قسد بالدوغمائية؟
الخوف من تفككها
“قسد” تضم تشكيلات متباينة إثنيًا وسياسيًا، لكنها محكومة بقيادة مركزية ذات خلفية كردية مؤدلجة. هذا التباين يدفع القيادة إلى التمسك بالمركزية الفكرية والتنظيمية كوسيلة للتماسك، ولو على حساب التعدد والشرعية.
ضعف القاعدة الشعبية
يفتقر مشروع “قسد” إلى حاضنة شعبية واسعة خارج البيئة الكردية، خصوصًا في المناطق العربية. ومن أجل فرض القبول، تلجأ إلى آلية “فرض الأمر الواقع” بدلًا من الانفتاح أو التحالف مع قوى محلية مستقلة.
الدعم الأمريكي لـ”قسد” بوصفها ذراعًا لمحاربة “داعش” أتاح لها هامشًا من المناورة بعيدًا عن الضغوط الداخلية. هذه الحماية دفعت نحو نوع من “التحصين الذاتي” المفرط، والركون إلى الدعم الخارجي بدلًا من بناء شرعية محلية مرنة.
ارتباط “قسد” الأيديولوجي بـ”حزب العمال الكردستاني” (PKK) الذي يحمل تراثًا عقائديًا صارمًا، يفسر الميل نحو الدوغمائية. فالفكر التنظيمي المتوارث لا يعرف سوى الانضباط الحزبي والطاعة الهرمية، ولا يعترف بالتعدد الفكري أو بالمجتمع السياسي التعددي.
ثالثًا: عواقب التمسك بالدوغمائية
الدوغمائية ليست مجرد خطأ نظري، بل هي خطر استراتيجي. فبمرور الوقت، تُنتج عزلة داخلية، واحتقانًا مجتمعيًا، وتآكلًا في الشرعية، وتفتح الباب أمام التمرد أو الانفجار. كما أن الاستناد إلى دعم خارجي هش لا يحمي مشروعًا متصلبًا من الانهيار إذا تبدلت المصالح الدولية.
ومن منظور وطني أوسع، فإن الإصرار على احتكار السلطة والقرار في بيئة شديدة التنوع، هو وصفة للتشظي، لا للبناء.
خاتمة:
إذا أرادت “قسد” أن تتحول من ميليشيا مؤدلجة إلى فاعل وطني حقيقي، فعليها أن تراجع بنيتها الفكرية، وتتحرر من دوغمائيتها، وتفتح المجال أمام شراكة سورية حقيقية، تستوعب المكونات المختلفة، وتقوم على التعددية، لا على فرض النموذج الواحد.
أما الاستمرار في المسار الحالي، فمصيره – كما تخبرنا التجارب التاريخية – الانفصال عن الواقع، ثم الاصطدام به.



