ليبيا.. انعكاسات الموقع والثروة

فرج كُندي
باحث وكاتب – ليبي
أثبت التاريخ والواقع أن للموقع الجغرافي والثروة النفطية الأثران البارزان في ما تمر به ليبيا من أزمات متوالية، وأن أزمتها ليست وليدة اليوم؛ بل هي وليدة صراع وأطماع منذ قرون طويلة وموغلة في القدم، ومتجددة عبر العصور التاريخية؛ سببها موقعها الإستراتيجي، الذي أتاح لها مركزًا دوليًا لا يمكن تجاوزه، وما اكتُشف فيها من ثروات نفطية كبيرة وخامات ممتازة أضافت إلى أهميتها الجغرافية والإستراتيجية أهمية؛ كونها مصدر طاقة مهم وثروة مالية كبيرة، ضاعفت من أهميتها ووضعتها محل أطماع وصراع بين القوى الدولية والإقليمية المحتاجة للطاقة أو الطامعة في الثروة، أو المتنافسة على النفوذ أو الطامعة في الثلاثة معًا.
الموقع الإستراتيجي
سبب الموقع الجغرافي لليبيا العديد من المشاكل عبر تاريخها الموغل في القدم؛ فهي تقع في شمال إفريقيا على ساحل البحر المتوسط، وتحدها ست دول: مصر والسودان وتشاد والنيجر والجزائر وتونس. يبلغ إجمالي طول الحدود الليبية 4,348 كم: مصر (1,115 كم)، وتشاد (1,055 كم)، والجزائر (982 كم)، والسودان (383 كم)، والنيجر (354 كم)، وتونس (459 كم). ويبلغ طول شريطها الساحلي الممتد على طول البحر الأبيض المتوسط 1,770 كم. وتبلغ مساحتها الإجمالية 1,759,540 كم². مع تعداد سكاني قليل جدًا وصل في أواخر الإحصاءات إلى نحو سبعة ملايين نسمة على أكثر تقدير.
بسبب هذا الموقع، تعرضت ليبيا للغزو منذ أقدم العصور، ومازالت هدفًا ومحلًا للصراع الجيوسياسي الدولي إلى يومنا هذا، وهو سبب أزمتها التي تمر بها اليوم في صورة النزاع الدائر حول النفوذ العسكري والسياسي على هذه الرقعة المهمة من العالم.
كانت أغلب الغزوات تأتي من الشمال لليبيا منذ قدوم شعوب البحر الأوروبية الغازية في الألف الأول قبل الميلاد.
في فترة العصور الكلاسيكية، استوطنها الفينيقيون في القرن الثامن قبل الميلاد، وأسسوا المدن الثلاث في الغرب – طرابلس ولبدة وصبراتة – وأسس الإغريق المدن الخمس في الشرق سنة 631 قبل الميلاد، وهي قورينا (شحات) وطلميثة وتوكرة وبنغازي وسوسة. ثم لحقهم الرومان في منتصف القرن الثاني قبل الميلاد بعد انتصاراتهم على الفينيقيين واستيلاء روما على الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، ومنها ليبيا، الذي استمر حتى دخول طلائع الفتح الإسلامي بوابة ليبيا الشرقية – برقة – سنة (21 هجري / 641 ميلادي)، ثم اتجهت جنوبًا نحو فزان وغربًا نحو طرابلس.
استمرت ليبيا تنعم تحت السيادة الإسلامية عدة قرون، مع تعرض شواطئها إلى الهجمات البيزنطية التي سرعان ما تندحر أمام صد القوة الإسلامية المدافعة عن ثغور الإسلام.
إلى أن حدثت أولى الثغرات باستيلاء “الجنويين” على طرابلس حين اجتاحوها سنة (1354 ميلادي) وعاثوا فيها سلبًا، ثم خرجوا منها مقابل فدية مالية كبيرة.
تعرضت طرابلس إلى غزو الإسبان بقيادة “بيدرو نافارو” سنة (1510 م)، ثم تنازلوا عنها بل وهبوها لفرسان القديس يوحنا المالطيين سنة (1535 م)، الذين أخرجهم الأتراك العثمانيون سنة (1551 ميلادي) بناءً على طلب وفد من أهل ليبيا النجدة من الدولة العثمانية للمساعدة في طرد فرسان مالطا. فدخلت ليبيا تحت الحكم العثماني بعد ذلك التاريخ. وخلال عهد الدولة القرمانلية (1711-1835 م) في ليبيا، التي كانت تتبع الدولة العثمانية اسميًا، حدث صدام بحري قوي مع الولايات المتحدة الأمريكية، تمكنت فيه البحرية الليبية من أسر البارجة الأمريكية “فيلادلفيا” قرب شاطئ مدينة طرابلس، وقامت البحرية الأمريكية بقصف مدينة درنة الواقعة في الشرق، وعُرفت بحرب السنوات الأربع (1801-1804)، لم تتمكن فيها القوات الأمريكية من النزول على الأرض، واكتفت بإحراق السفينة – فيلادلفيا – في ميناء طرابلس.
عام 1911، دخلت ليبيا منعطفًا كبيرًا وخطيرًا عصف بها من البحر، متمثلاً في جحافل الغزو الإيطالي القادم بعقيدة صليبية تسبقها أحقاد قديمة تقوم على أن ليبيا هي أرض كانت تحت حكم أجدادهم الرومان، طردهم المسلمون منها، ومن حقهم استرجاعها والعودة إليها؛ فشنت حرب إبادة على الشعب الليبي استمرت ولم تتوقف إلا فترة وجيزة بعد أسر وشنق شيخ الشهداء عمر المختار سنة (1931 م)، لتخرج تجر أذيال الهزيمة أثناء الحرب العالمية الثانية عام (1942 م).
أزمة الموقع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (1945 م)
مع دخول قوات الحلفاء مع المجاهدين الليبيين الذين كونوا جيش التحرير بقيادة الأمير إدريس السنوسي سنة (1942 م)، استطاع الأمير إدريس السنوسي انتزاع وعد من بريطانيا بعدم عودة الطليان إلى برقة، موطن نفوذه وولاء قبائلها المطلق للسنوسية، ومع تفطن القادة الطرابلسيين للصراع بين الدول المنتصرة في الحرب على الانفراد بموقع ليبيا الإستراتيجي، ومع أحلام إيطاليا بالعودة إلى إقليم طرابلس على الأقل، فيما عُرف باتفاق (بيفن – سيفورزا) وزيري خارجية إيطاليا وبريطانيا، مع سعي الاتحاد السوفيتي للحصول على موضع قدم على البحر المتوسط مقابل الشواطئ الأوروبية يمكنه من الاقتراب من خصمه اللدود المتمثل في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية. فكان دافعًا لهم إلى التوجه إلى الأمير إدريس وعرض فكرة توحيد مطالب الليبيين في الوحدة والاستقلال في أروقة الأمم المتحدة بعد أن وضعت الحرب أوزارها سنة (1945 م).
نتج عن هذا الموقف الموحد والإصرار عليه من خلال تشكيل الوفد الواحد ومقابلة لجنة تحري الحقائق، واتفاق جميع الليبيين على المطالبة بالاستقلال والوحدة بين الأقاليم الثلاثة – برقة وطرابلس وفزان – أن نجح الليبيون في انتزاع قرار استقلال ليبيا من هيئة الأمم المتحدة تحت اسم المملكة الليبية المتحدة سنة (1951 م).
لعنة الثروة
خرجت الدولة الليبية الوليدة من بين أنياب الدول المتصارعة والمتنافسة على الاستيلاء عليها والاستئثار بموقعها الإستراتيجي عام (1951 م) في ظروف اقتصادية صعبة جدًا. بلد مدمر نتيجة جعله مسرح عمليات عسكرية شرسة بين دول الحلفاء والمحور، مع حداثة عهد باستعمار استيطاني قمعي تمثل في المستعمر الإيطالي الذي عمل على قتل وتهجير الليبيين، وتبني مشروع إخلاء ليبيا من شعبها عن طريق ثالوث الفقر والجهل والمرض، بعد أن سبقه مشروع القتل والتهجير والإبادة في المعتقلات الجماعية، مع افتقار كبير لمقومات إقامة الدولة بسبب انعدام وجود موارد مالية كافية.
حاول الليبيون الاستعانة بإخوانهم العرب من الدول ذات الموارد المالية، فشكل الملك إدريس وفدًا زار مصر والعراق والسعودية، فعاد الوفد بخيبة أمل كبيرة جدًا، ولكن استطاع الساسة الليبيون إيجاد مخرج سريع عن طريق تأجير قواعد عسكرية لبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، حققت لهم ميزانية للدولة في مناورة سياسية كبيرة من خلال الإيحاء بأنه إن لم يجرِ الاتفاق مع أمريكا وبريطانيا، فإن الاتحاد السوفيتي جاهز للاتفاق بالمبلغ الذي تراه ليبيا؛ وبذلك ضمنت الحكومة الليبية جزءًا كبيرًا من ميزانية الدولة بالإضافة إلى المعونات التي تعهدت بها الأمم المتحدة للدولة الناشئة.
بعد عشر سنوات من الاستقلال، تم اكتشاف النفط بكميات تجارية، وسرعان ما بدأ تصدير النفط، وبدأت معه الأموال تنهال على خزينة الدولة، فشرعت الحكومات المتعاقبة في إقامة المشروعات التنموية التي بدأت نتائجها تعود على الليبيين على كل الأصعدة، خاصة في مجال الصحة والتعليم وتحسين المستوى المعيشي للإنسان الليبي.
إلا أن هذه المشاريع وهذه النهضة المتسارعة التي تمثلت في طفرة واسعة وسريعة انعكست على حياة الليبيين، كانت لها قوى أخرى بالمرصاد، متخذة قرارًا حاسمًا هو الحيلولة دون نهضة ليبيا وعدم استفادة الشعب الليبي من ثرواته. ونتيجة للصراع على الموقع والثروة معًا بين القوى الإقليمية، تفاجأ الشعب الليبي بانقلاب عسكري قام به بعض الضباط الصغار الرتب في الفاتح من سبتمبر 1969، أزاح نظام الحكم الملكي وتفرد المجلس العسكري بالحكم فترة من الزمن، إلى أن تخلص معمر القذافي من المجلس وانفرد بالحكم، وجلس على بحيرة من النفط تدر عليه ثروات طائلة يتصرف فيها وحده كيف يشاء، فعطل القوانين وجمد حركة التنمية وعبث بمقدرات البلاد ووظفها في دعم المنظمات الأيديولوجية والحركات الانقلابية، وقمع الحريات ونكل بالمعارضين، وتراجعت الخدمات الصحية وانهار التعليم، ووصل بالبلاد إلى حالة من الانسداد السياسي والقمع الفكري، مع تبعية للمعسكر الشرقي والاعتداء على دول الجوار والدخول في حروب في أوغندا ومع مصر وحرب تشاد التي ضاع فيها الشباب الليبي بين قتيل وأسير، وأضاع ثروة البلاد التي كان يجب أن توظف في خدمة المواطن ورفع مستوى الوطن! فكانت الثروة نقمة على الشعب الليبي بدل أن تكون نعمة.
استمر القذافي في حكم ليبيا اثنتين وأربعين سنة حكمًا فرديًا قمعيًا بدد ثروة البلاد وأفقرها، وقمع الحريات ودمر بنية الدولة؛ مما أثار حفيظة الشعب الليبي عليه، فخرج في ثورة عارمة في 17 فبراير 2011 م أطاحت بنظام حكم القذافي وأتت عليه من القواعد، مع أمل في بناء دولة المؤسسات والقانون – شعار الثوار أثناء الثورة.
بعد القضاء على القذافي، لم تترك القوى الدولية والإقليمية المجال للدولة الليبية أن تقوم من جديد؛ فكما ابتلتها بانقلاب سبتمبر وحاولت أن تحرمها الاستقلال قبل عام 1951 م، كانت القوى الطامعة في ليبيا موقعًا وثروة بالمرصاد للثورة الليبية؛ فتدخلت في ليبيا في اصطفافات متعددة ومتعارضة المصالح، كل منها يريد أن تكون له اليد الطولى في البلاد من خلال حلفاء محليين لهم مصالح خاصة قدموها على مصلحة الوطن. مما جعل ليبيا ممزقة مقطعة الأشلاء تنهشها القوى المتصارعة للاستحواذ على أكبر قدر من مكاسب جغرافية على الأرض بنزول قواتها العسكرية مستبيحة سيادتها الوطنية ومستحوذة على ثرواتها من خلال تهريب النفط والاستيلاء على منابعه، وبيعه خارج النطاق الرسمي لتعزيز وجودها ولدعم حلفائها المحليين الذين يخدمون مصالحهم الخاصة دون اعتبار لمصلحة الوطن أو المواطن الليبي.
عانت ليبيا عبر تاريخها من موقعها الجغرافي الإستراتيجي ودفعت أثمانًا كبيرة جدًا، ثم زاد الطين بلة ثروتها من النفط التي ضاعفت من الصراع عليها بين القوى الدولية وأشعلت نار الفتنة والصراع بين أبنائها، فأدخلتهم في حرب أهلية ضروس طاحنة على السلطة والنفوذ أدت إلى مقتل الآلاف من شبابها ودمرت المدن ومزقت نسيجها الاجتماعي وأدخلتها دوامة صراع دولي محلي لا أمل في الخروج منه في القريب المنظور، وإن خفت لهيب الحرب قليلاً إلا أن فتيلها لم ينطفئ بعد وقابل للاشتعال في أي وقت من الأوقات.
ومازالت ليبيا تعاني الأمرين من أفضل مقوماتها الجغرافية وما حوته من ثروات طبيعية جلبت عليها تكالب الطامعين، ولا مخرج لها إلا من خلال وحدة أبنائها وتقديم مصلحة الوطن على التبعية والمصالح الفردية والجهوية التي قد تؤدي إلى ضياع ليبيا أو تغيير ملامحها الجغرافية والسياسية والاجتماعية حسب مخطط الطامعين فيها وهم كُثر.