اجتماعيةعاممقالاتمقالات الرأي

ليبيا بين القبيلة والدولة: تاريخٌ يعيد إنتاج نفسه

 

الدكتور:علي جمعةالعبيدي
رئيس مؤسسة شمال أفريقيا للدراسات السياسية والاستراتيجية.

كيف تحوّلت البنية القبلية من وعاء اجتماعي إلى عائق سياسي أمام الدولة الحديثة؟

ملخص المقال :
منذ الاستقلال، عاشت ليبيا صراعًا خفيًا بين منطق القبيلة ومنطق الدولة. ورغم تغير الأنظمة من الملكية إلى الجماهيرية ثم الثورة، ظلّ السؤال واحدًا: لماذا تتعثر الدولة الحديثة في ليبيا؟ هذا المقال يحلل الجذور التاريخية والاجتماعية لذلك الفشل، من منظورٍ تاريخي–تحليلي.

“حين تصبح القبيلة ملاذًا من الدولة، تتحول الدولة إلى غنيمة، لا إلى وطن.”

من فسيفساء الأقاليم إلى وحدةٍ معلّقة :

ولدت ليبيا الحديثة من ثلاثة أقاليم متباعدة:برقة و طرابلس و فزانّ. توحّدت قسرًا بفعل الاستعمار الإيطالي، ثم تحت راية المملكةالليبية، لكنّ الوحدة السياسية لم تثمر وحدة شعورية.
بقي الانتماء الجهوي أقوى من الانتماء الوطني، فظلت القبيلة الإطار الأكثر أمانًا والأكثر نفوذًا، فيما بقيت الدولة إطارًا هشًا يفتقر إلى الولاء الحقيقي.

الولاء المزدوج — للعشيرة وللدولة — هو ما جعل الهوية الوطنية الليبية تولد ناقصة.

القذافي… حين صارت الدولة قبيلة كبرى :

حين استولى معمر القذافي على الحكم عام 1969، بدا كمن يريد تجاوز القبيلة إلى الثورة، لكنه في الواقع أعاد إنتاجها بأدوات جديدة.
حوّل الدولة إلى خيمة كبرى تدور في فلكه، واستعان بالقبائل كأذرع سلطوية. صار الولاء له هو مقياس الوطنية، فتحوّلت ليبيا إلى ما يمكن وصفه بـ”القبيلة المركزية”، تتفرع عنها قبائل صغيرة تابعة بالمصلحة.

ومع سقوط نظامه عام 2011، انهارت تلك الشبكة التي كانت تُمسك بخيوط الدولة، فعادت القبائل إلى الواجهة، لا كرمزٍ للهوية الاجتماعية، بل كفاعلٍ سياسي وعسكري يسيطر على الأرض والسلاح.

بعد الثورة… الدولة غائبة والقبيلة حاضرة :

أظهرت أحداث ما بعد فبراير أن سقوط النظام لا يعني ولادة الدولة.
الشرق يطالب بالفدرالية، الغرب يتمسك بالمركز، والجنوب يعيش في الظلّ.
تكرّر التاريخ نفسه كما لو أن ليبيا خرجت من الاستبداد لتدخل في صراع الجغرافيا والعصبية من جديد.

الثورة الليبية كشفت حجم الفراغ المؤسسي، وأعادت التاريخ لا المستقبل.

تحولت الميليشيات إلى قبائل مسلحة، والمجالس المحلية إلى شيوخ عشائر جدد، وانقسمت الولاءات وفق الجهة لا وفق المشروع الوطني.

بين الهوية والمستقبل :

إن ليبيا لا تعاني فقط من غياب الدولة، بل من غياب فكرة الدولة ذاتها في الوعي الجمعي.
فالمواطنة لم تتجذر، والقبيلة ما زالت تسبق الوطن في سلّم الانتماء.
وما لم يُعاد بناء العقد الاجتماعي على أسس المساواة، فإن كل حديث عن الدولة سيظلّ خطابًا دون مضمون.

الدولة لا تُبنى بالدساتير، بل بالثقة التي تجعل المواطن يرى في القانون قبيلته الجديدة.

خاتمة:
بين الذاكرة والقدر …

ليبيا اليوم أمام مفترق طرق حاسم.
إمّا أن تواجه ذاكرتها التاريخية وتتعلم منها، أو أن تبقى أسيرة لها.
التاريخ لا يرحم الشعوب التي تكرّر أخطاءها، ولا ينتظر الدول التي ترفض أن تتعلم.

قد تكون القبيلة قدر ليبيا الاجتماعي، لكن الدولة وحدها هي قدرها السياسي.
والفارق بين الاثنين، هو ما سيحسم إن كانت ليبيا ستبقى في الماضي… أم تدخل التاريخ من بابه الصحيح.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى