عاممقالاتمقالات الرأي

ليبيا في عقل هنري كسنجر: الواقعية حين تخاف من الثورة

الدكتور:علي جمعةالعبيدي
رئيس مؤسسة شمال أفريقيا للدراسات السياسية والاستراتيجية

يحلّل هذا المقال موقع ليبيا في فكر هنري كسنجر، أحد أبرز منظّري الواقعية السياسية في القرن العشرين، كاشفًا كيف مثّلت ليبيا — في نظره — نموذجًا للثورة “اللاعقلانية” التي تهدّد النظام الدولي. ويرى الكاتب أن هذا التصور يعكس نزعة معرفية غربية تخاف من المعنى حين يولد خارج مركزها، ويدعو إلى تبنّي واقعية عربية أخلاقية توازن بين المصلحة والقيمة، والاستقرار والعدالة.

مقدمة

في تاريخ الفكر السياسي الحديث، قلّ أن اجتمع في شخصٍ واحد ما اجتمع في هنري كسنجر من دهاء الدبلوماسي وبرودة الفيلسوف.
فهو لا ينظر إلى العالم من خلفية أخلاقية أو أيديولوجية، بل من منطلقٍ شديد البراغماتية:
أنّ الاستقرار أهمّ من العدالة، والنظام أولى من الثورة.

ومن هنا، كانت ليبيا بالنسبة إليه أكثر من دولةٍ متمرّدة،
كانت مرآةً تُظهر ما يخشاه كسنجر فعلًا: أن تتحوّل الفكرة إلى خطرٍ على النظام الدولي.

ليبيا في عين الواقعي البارد :

حين صعد العقيد معمر القذافي إلى السلطة عام 1969،
رأى كسنجر في الحدث الليبي امتدادًا لما سمّاه “اللاعقلانية الثورية” التي اجتاحت العالم الثالث.
فالثورات — في نظره — ليست مشاريع سياسية، بل نزوات أيديولوجية تهدّد توازن القوى.

وبينما اعتبر البعض أنّ ليبيا تمثّل تجربة تحرّرٍ وطني،
رآها كسنجر رمزًا للفوضى المثالية التي تضع العاطفة فوق المصلحة،
وتسعى لتغيير النظام العالمي بدل التكيّف معه.

“الثورات التي ترفع شعار الخلاص تدمّر النظام الذي يسمح بوجودها.”
— هنري كسنجر (World Order, 2014)

لهذا، لم يتعامل معها كحالة يجب فهمها، بل كـ ظاهرة يجب احتواؤها.
فبدل المواجهة العسكرية، دعا إلى “الاحتواء غير المباشر” عبر الجوار العربي —
عزل ليبيا سياسيًا واقتصاديًا حتى تفقد بريقها الثوري من تلقاء نفسها.

الواقعية حين تخاف من المعنى :

ينطلق كسنجر من قناعة مفادها أن العالم تحكمه قوانين القوة لا المبادئ.
وبهذا المنطق، رأى أن ليبيا — مثل إيران لاحقًا — ليست خطرًا عسكريًا،
بل خطر رمزيّ لأنها تُعيد تعريف السياسة بمعناها الأخلاقي والديني.

لكن هذا المنطق الواقعي، كما يلاحظ النقاد العرب،
يُخفي نزعة معرفية استعلائية،
إذ يقيس “العقلانية” بمقياسٍ غربي صرف،
ويصف أيّ مشروعٍ تحرّري خارج هذا المقياس بأنه “لاعقلاني”.

من الواقعية إلى الأيديولوجيا المقنّعة :

رغم ادّعاء الحياد، تتحوّل الواقعية الكسنجرية إلى أيديولوجيا مضادة للأيديولوجيا.
فهي ترفض الثورات لأنها تزعزع النظام،
وتعتبر العدالة تهديدًا للاستقرار،
وتقدّم “فن إدارة القوة” كبديلٍ عن الأخلاق.

“الواقعية عند كسنجر ليست منهجًا للتفسير فحسب، بل عقيدة لتبرير الهيمنة.”

لقد جعل كسنجر من مفهوم “الاستقرار” قيمة مطلقة تفوق الحرية،
فالديمقراطية في نظره خطرٌ إذا لم تُضبط،
والثورة تهديدٌ إن لم تُدار من الخارج.

وقد ظلت هذه الرؤية تُوجّه السياسات الأمريكية حتى بعد كسنجر،
حين صار الاستقرار — لا الإصلاح — مبدأً ثابتًا في التعامل مع ثورات الربيع العربي.
فما اعتُبر “حفاظًا على التوازن” في سبعينيات القرن الماضي،
تحوّل في القرن الحادي والعشرين إلى تجاهلٍ لمطالب الشعوب باسم الواقعية السياسية.

ليبيا: الفوضى أم الكرامة؟

ما يراه كسنجر “فوضى”، يراه كثيرون من العرب صرخة كرامة في وجه نظام دولي ظالم.
فالثورة الليبية — رغم تناقضاتها — كانت محاولة لاستعادة السيادة،
لا مجرّد نزوة سياسية.

ومن هنا، فإن المشكلة ليست في الواقعية كمنهج،
بل في تحوّلها إلى فلسفةٍ مغلقة تنكر التنوع الحضاري،
وترى في الاختلاف خطرًا يجب ضبطه لا فهمه.

نحو واقعية عربية أخلاقية :

تكشف قراءة ليبيا في فكر كسنجر عن حاجة الفكر العربي إلى بناء بديلٍ معرفي خاص،
لا يرفض الواقعية، بل يُعيد تعريفها من داخلها.
واقعية تعترف بالقوة لكنها لا تُقدّسها،
توازن بين المصلحة والمبدأ،
وتدرك أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق إلا بالعدالة.

إنها ما يمكن تسميته بـ الواقعية الأخلاقية العربية —
واقعية لا تخاف من الثورة،
بل تراها ضرورة لتصحيح ميزان العالم المختلّ.

خاتمة :

إنّ ليبيا في عقل هنري كسنجر لم تكن بلدًا يُفكَّر فيه، بل ظاهرة يُخشى صداها.
فكسنجر لا يخاف من الدبابات، بل من الأفكار التي تُلهم الشعوب.
ولهذا، تظلّ ليبيا في فكره مجرّد “تنبيهٍ دائم” إلى حدود النظام الدولي،
وإلى خوف الواقعية الغربية من المعنى حين يولد في الصحراء.

الاستقرار بلا عدالة ليس سلامًا، بل صمتٌ يسبق الانفجار.

Related Articles

Back to top button