عاممقالات فكرية

مآلات الاعتزال والتصوف

 

الاستاذ: محمد خليفة  

تقوم وسطية الإسلام على إعمال العقل دون تأليه أو تعطيل، لأن تأليه العقل رذيلة، وتعطيل العقل رذيلة! ولما كان جوهر كل فضيلة هو توسطها بين رذيلتين كان إعمال العقل دون تأليه أو تعطيل هو فضيلة الإسلام. وقد مثل الاعتزال والتصوف مظهران من مظاهر الانحراف عن الوسطية وفقدان التوازن في الحضارة الإسلامية البائدة، وما تبقى منها في عصرنا الحاضر.

لقد آل الحال ببعض المعتزلة إلى تأليه العقل والزندقة، بينما آل الحال ببعض المتصوفة إلى تعطيل العقل والدروشة. وما سأقوم به الآن هو تتبع تطورات الاعتزال حتى أيلولته إلى الزندقة أولاً، ثم تتبع تطورات التصوف حتى أيلولته إلى الدروشة ثانيًا.

اولاً. الاعتزال.

اشتق الاسم من اعتزال واصل بن عطاء شيخه الحسن البصري في مسجد البصرة، بسبب الاختلاف حول “مرتكب الكبيرة”، الذي تولد عنه أصل من أصول المعتزلة، وهو “المنزلة بين المنزلتين”. والمقصود بالمنزلتين “الكفر” و”الإيمان”، ووقوع مرتكب الكبيرة في منزلة بينهما معناه عند المعتزلة أن مرتكب الكبيرة ليس مؤمنًا ولا كافر وإنما “فاسق”. ثم تشعبت الأمور والمباحث حتى وصلت إلى قضية “خلق القرآن” الشهيرة، بين قضايا أخرى تتعلق كلها بتقرير عقيدة المسلمين وما يجب الإيمان به.

ولا خلاف بين المؤرخين في أن المعتزلة فرقة كلامية؛ وأول علم الكلام هو الكلام في البارئ عزل وجل (أسماؤه وصفاته)، ثم يتشعب إلى مواضيع شتى منها، أو من أهمها، الكلام في “الإمامة”، أي الكلام في “الحكومة الإسلامية”. وأصول المعتزلة في الجملة خمسة هي: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولفهم ظاهرة الاعتزال لا بُد من شرح حقيقتين طال اهمالهما. الحقيقة الأولى تاريخية؛ وتتعلق ببعض أثار الترجمة والتعريب على الفكر الإسلامي. والحقيقة الثانية عقدية؛ وتتعلق بمركز العقل في الإسلام.

  • أثر الترجمة والتعريب على الفكر الإسلامي. كان الفكر الإسلامي ينفتح أمام أفكار الشعوب غير المسلمة بقدر ما يفتح المسلمون من بلدان. وكانت الترجمة هي القناة التي تدفقت من خلالها الأفكار الوافدة، وأهمها فيما يخصنا هنا الاغريقية والفارسية.

من الفكر الاغريقي وصلت فكرة الـ”لوغس” التي لم تُعرّب وإنما ترجمت إلى “علم الكلام”، على اعتبار أن كلمة لوغس “Logos” الاغريقية تترجم إلى “كلمة” و”عقل” بين عدة ترجمات أخرى، لا مجال لحصرها في هذا البحث الموجز. ولما كانت “كلمة” تعني الكلمة الواحدة وتعني الكلام الكثير (كقولك ألقيت كلمة في الحاضرين..) تحول المصطلح الاغريقي وهو “كلمة” إلى مصطلح جديد عند المسلمين وفي الحضارة الإسلامية هو “الكلام” و”علم الكلام” و”المنطق”!

ومن الفكر الفارسي دخلت أفكار ماني (مؤسس مدرسة المانوية) وهو القائل بإلهين اثنين (النور والظلمة). انتشرت المانوية في المنطقة الممتدة بين الصين واسبانيا، واحتلت مركزًا مؤثرًا في الإسكندرية عندما كانت هذه المدينة عاصمة البحر المتوسط الثقافية.[1] وعندما ورثت بغداد الإسكندرية انتقلت المانوية إلى الحضارة الإسلامية، ضمن ما ورثته عن بقايا الحضارات الأخرى.[2]

كان ظهور المانوية وانتشارها في دار الإسلام المناسبة التي دخل فيها مصطلح “الزندقة” إلى دائرة الفكر الإسلامي. المصطلح فارسي تم تعريبه ولم يترجم. وتمثل الزندقة خروجًا عن الإسلام دون اعلان الكفر به. وكان المانوية أول طبقة من طبقات الزنادقة، وقد تصدى لهم المعتزلة الذين كانوا في حينها فرسان العقلانية المسلمة، وكما سنرى بعد قليل. غير أن ما سلف يعيدنا إلى الـ”لوغس”، ولكن بحسبه “العقل” وليس “الكلمة” هذه المرة.

والقصد من هذه العودة إلى “العقل” هو بحث الفرق بين “التفكير بالعقل” و”التفكير في العقل”، لأن بحسب ناقد العقل العربي “التفكير في العقل درجة من المعقولية أسمى دون شك من درجة التفكير بالعقل“. ولا يكتسي “التفكير في العقل” هذه الدرجة من الأهمية إلا لأنه تفكير في الإله! فهل العقل إله من الآلهة؟ أم هو الإله ذاته؟[3]

  • العقل ودوره في الإسلام. يقوم الإسلام على نفي تعدد الآلهة صراحة ونفي ألوهية العقل ضمنًا. ولا خلاف في نفي الإسلام لتعدد الالهة، أما نفي ألوهية العقل فمما يستنتج من استقراء آيات القرآن الكريم على المستوى النظري، والسنة النبوية على المستوى العملي.

على المستوى النظري؛ العقل في القرآن ليس اسمًا، فهو فعل (من نوع: أفلا يعقلون؟ أو لعلكم تعقلون!)، ولا ذكر لمفردة “العقل” في آيات القرآن كلها! واستخدام عبارات من نوع “أولى النهى” أو “أولي الالباب” استبعاد مقصود لمفردتي عقل وعاقل كاسم وصفة!

وما سلف يعيدنا إلى مسألة الكلام في البارئ عز وجل، فالعقل ليس من أسمائه والعاقل ليس من صفاته. وفرق ما بين المسلم وغير المسلم في هذا الباب هو الالتزام بالقرآن في باب الأسماء والصفات لقوله تعالى “ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون“.

وعلى المستوى العملي؛ تعد شعائر الحج أكبر نفي جماعي لألوهية العقل، ولذا لا يأتي بها من يجعل من العقل إلهًا لأنها ــ كأي أمر تعبدي آخرــ غير معللة. الحج حق من حقوق الله على العباد لقوله تعالى: “ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا“. وبخصوص أداء هذه الشعيرة قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: “خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا“.

الإيمان بأن الحج ركن من اركان الإسلام تصديق لكتاب الله، وأداء مناسكه اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونفي لألوهية العقل لقوله تعالى: “ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب“، فالقلوب التي لا تقوى لها تؤله الهوى باسم العقل، وترفض الحج، باسم العقل كذلك!

وارجو أن يرى القارئ فيما سلف ما يكفي لإدراك قضية تأليه العقل، لأن ما سأشرحه الآن هو كيف تصدى المعتزلة لزنادقة المانوية في البداية، وكيف انتهى الحال ببعضهم إلى الزندقة من باب تقديم العقل على النقل، وهو ما يساوي تأليه العقل. وسيكون هذا في فقرتين تتحدث الأولى عن بدايات الاعتزال والتزام المعتزلة بكتاب الله، ثم كيف آل حال بعضهم إلى الزندقة مثلما حصل لابن الراوندي وأبو العلاء المعري.

أ) بدايات الاعتزال.

كان شيوخ المعتزلة الأوائل مثال الالتزام بالقرآن، ففي وصف واصل بن عطاء قالت زوجته: “كان واصل إذا جنه الليل صف قدميه يصلي، ولوح ودواة موضوعان، فإذا مرت به آية فيها حجة على مخالف جلس فكتبها ثم عاد في صلاته“.

وتطبيقًا لهذا المنهج حاجج واصل بخصوص المنزلة بين المنزلتين، وكانت حجته قوله تعالى “والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابدًا وأولئك هم الفاسقون”. رمي المحصنات كبيرة ومرتكبها “فاسق” بنص القرآن الكريم، ولا طائل إذن من الجدل في كفره من إيمانه، فهو لا هذا ولا ذاك. وصف مرتكب الكبيرة من أقصر واقوم الطرق (القرآن الكريم) هو “فاسق”.

كان واصل أول من تصدى لأتباع ماني، قبل نهاية الدولة الأموية التي سقطت سنة 132هـ، فقد ألف كتاب “الالف مسألة في الرد على المانوية” سنة 131هـ. ولم يكتفِ واصل بالتأسيس لمذهبه العقلاني، بل اشتغل بنشره كذلك.

أرسل واصل تلاميذه إلى الشرق والغرب لإدارة المواجهة بين الإسلام وأفكار غير المسلمين ونشرًا لمذهب الاعتزال. ومن ذلك ارساله عبد الله بن الحارث إلى المغرب، وحفص بن سالم إلى خرسان، والقاسم بن السعدي إلى اليمن، وعثمان الطويل إلى أرمينيا.

ومن منتسبي الاعتزال أعلام بلغت شهرتهم الآفاق، ولهم مكانة متميزة في تاريخ الأفكار منهم: الزمخشري صاحب تفسير الكشاف، والقاضي عبد الجبار صاحب المغني وشارح الأصول الخمسة، والجاحظ وهو من هو في كل علم وفن، وهناك غيرهم كثير[4] غير أن المقام لا يتسع لأكثر من هذا المقال.

ب) نهايات الاعتزال.

كان الاعتزال قائمًا على تقديم العقل والاعتماد عليه، ولكن ليس بأي ثمن في البداية، وبأي ثمن بعد ذلك. شدة الحماس “للعقل” على حساب “النقل”، جعل العقل إلهًا والهوى الناطق باسمه. وهنا آل الاعتزال إلى زندقة!

وهذا أغرب الانقلابات في تاريخ الفكر الإسلامي، فالفرقة التي تولت الدفاع عن الإسلام بداية، أمسى بعض منتسبيها ساخرين منه، ومكونين بذلك الطبقة الثانية من طبقات الزنادقة بعد المانوية، إلى جانب أهل اللهو والمجون وهم الطبقة الثالثة. وهذه البلبلة آلت بأهل الاعتزال إلى مدرستين مختلفتين ومتناقضتين، مثلهما أبو الحسن الاشعري من جهة، وابن الراوندي من جهة أخرى.

  • مدرسة الاشعري. عاش أبو الحسن الاشعري أربعين عامًا معتزليًا ثم ترك الاعتزال، أو خلعه بتعبيره هو، وعاد إلى السنة ليضع المذهب الذي تسمى باسمه، وفيه اثبت لله: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام، وترك بقية الصفات للتأويل. وقد أصبح مذهبه هذا مذهب المالكية والشافعية، والمعتمد في مناهج الأزهر الشريف.

وللأشعري نظير معاصر له هو أبو منصور الماتريدي وهو المعتمد في العقيدة عند الاحناف. وقد نجح الاشعري والماتريدي في الابتعاد عن شطط المعتزلة المتمثل في تقديم العقل على النقل. وهذا الشطط جعل بعض المعتزلة يؤله العقل دون إعلان، ويخرج من الإسلام دون تصريح، ومن هؤلاء ابن الراوندي وأبو العلاء المعري.. وآخرين.

  • مدرسة ابن الراوندي. كان ابن الراوندي من المعتزلة، لكن فقره المادي جعله يعترض على تقسيم رزق الله على خلقه! وفي هذا السياق يستغرب ابن الراوندي أن يكون الاحمق الجاهل موسر والعالم العاقل فقير، وقد صاغ حيرته في ابيات منها:

كم عالم عاقل ضاقت معيشته … وأحمق جـاهل تلقـاه مرزوقـا

هذا الذي ترك الالباب حائـرة … وصير العالم النحرير زنديقًا

يغفل ابن الراوندي عن أنه رُزق العلم، وأن الأغنياء لا يتبرعون بأموالهم للفقراء حتى يصبحوا متساوين في الثروة: “والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون“. ابن الراوندي ينسى نعمة العلم الذي أوتيه ويعترض على قلة الرزق الذي أصيب به.

وإذا انتقلنا إلى أبي العلاء المعري نجده مثالًا صارخًا لفريق آخر من الزنادقة وهم الذي يعيشون على السخرية من المسلمين الذين يؤدون مناسك الحج، فهم لا يرون حكمة في الطواف بالكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمرات. وقد صاغ المعري موقفه من الحج في أبيات يقول فيها:

وما حجي إلى أحجار بيت … كؤوس الخمر تشرب في ذراها

إذا رجع الحكيم إلى حجاه … تهـــاون بالشرائــع وازدراهــــا

هذا النوع من الزنادقة يغفل عن حقيقة أن أداء مناسك الحج نفي لألوهية العقل، وطاعة لله الذي لا إله غيره، إذ لو قُدم العقل على طاعة الله لكان العقل إله مع الله ولأختل النظام (الإسلام) القائم على أن الله لا إله غيره.

 

ثانيًا. التصوف.

التصوف موجود عند اليهود، موجود عند النصارى، وموجود عند المسلمين (شيعة وسنة). ومن الجدير بالذكر في هذا المفتتح أن “القبّالة”، وهي نوع من أنواع التصوف اليهودي، تُدرس وتدّرس في الدرجة الثالثة من درجات الماسونية الثلاثة وثلاثين.

وإذا كانت هذه الحقائق مازالت غائبة عن وعي غالبية المسلمين فذلك لأن ما يدرسه دارسوهم وما يدرّسونه لأبنائهم في مدارسهم وجامعاتهم ما زال مجرد شذرات تتعدد فيها المصادر وتختلف فيها المناهج، ولا يفضي الجمع بينها إلا إلى التناقض! وما سلف يدعو إلى وضع تصور أوضح وأشمل لجملة مسائل من بينها التصوف، وكيف آل حال بعض المنتسبين إليه إلى الدروشة تأثرًا لاواعيًا بمدارس غير اسلامية.

  • بدايات التصوف.

يقول ابن خلدون في التصوف: “هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة، وأصله أن طريق هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، … فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة“.[5]

في هذه الفقرة يقول ابن خلدون ثلاثة أشياء هي: 1) التصوف حدث من احداث القرن الثاني للهجرة، بمعنى أن المصطلح ذاته لم يكن معروفًا أيام الصحابة.  2) على مستوى الممارسة كان أوائل المتصوفة على طريق الصحابة والتابعين. 3) عندما فشا الاقبال على الدنيا (وشاع المجون والفساد) أصبح التصوف وصفًا للمقبلين على العبادة تزكيةً لأنفسهم ورغبة في الآخرة.

ومن دلائل سير أوائل المتصوفة على نهج الصحابة قول الجنيد: “من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في التصوف؛ لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة“. ومما اذكر لابي حامد الغزالي رحمه الله مقولة “كن عالمًا صوفيًا ولا تكن صوفيًا جاهلاً“. وقال ابن الجوزي “لما قل علم الصوفية بالشرع صدر منهم من الأفعال والأقوال ما لا يحل، ثم تشبه بهم من ليس منهم وتسمى باسمهم“!

وأول من تسمى بالصوفية هو أبو هاشم الكوفي (المتوفى سنة 150هـ)، وقد كان محلاً لهجوم الإمام جعفر الصادق الذي قال عنه: “إنه فاسد العقيدة جدًا، وهو ابتدع مذهبًا يقال له التصوف وجعله مقرًا لعقيدته الخبيثة“.

وللمصطلح علاقة وثيقة بحركة الترجمة التي دشنها -منذ العصر الأموي- خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى سنة 85هـ)، إذ أستخدم خالد هذا “جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل بمصر وقد تفصح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي“. والمقصود بالصنعة في الجملة المستشهد بها هو “الكيمياء” التي كانت في ذاك العصر مختلطة بالسحر[6]، وأشهر من اشتغل بذلك جابر بن حيان الذي توفي (سنة 197هـ) واختُلفَ في تصوفه لأسباب تتعلق بالعلاقة بين التعريب والبلبلة الشائعة بخصوص المصطلحات.

نحن إذن أمام جملة علاقات تربط بين الفلسفة والتقشف، وبين التقشف والتصوف، بمعنى أن هناك علاقة ما بين دخول الفلسفة عالم المسلمين وظهور مصطلح التصوف عندهم. ولي على فرضية تشابك العلاقات بين الفلسفة والتقشف والتصوف شاهدان: الأول تاريخي؛ وفيه أتتبع إجراءات تعريب المصطلح ليصبح مستخدمًا على النحو الذي نعرفه الآن. والدليل الثاني لغوي؛ وهو يبين العلاقة بين “سوفيا” وهي الحكمة في لغة الاغريق، و”الصوفية” بما هي الزهد والتقشف المكون لجوهر التصوف، وممارسات المتصوفة.

  • تعريب المصطلحات الاجنبية. لمصطلح الصوفية علاقة وثيقة بحركة الترجمة والتعريب التي بدأت منذ نهايات العصر الأموي وانتشرت بشكل واسع في العصر العباسي. ومعنى التعريب هو استخدام المصطلح الأجنبي ونطقه كما ينطق في لغته الأصلية مع كتابته بحروف عربية. ونحن هنا أمام مصطلح “الحكمة” اليوناني وهو في لغته الأصلية “سوفيا” (Sophia)، وقد اشتقَ منه الاغريق مصطلحان أولهما “سوفيست” (Sophist) وقد تعرب المصطلح ليصبح “سفسطائي”. والمصطلح الثاني هو “فيلوسوفيا”، (Philosophia) أي حب الحكمة، وقد تعرب في كلمة “فلسفة”. الاشتقاق الثالث كان عربيًا خالصًا وهو “الصوفية”، الذي تحول إلى فعل هو “التصوف”، فالصوفية تعريب لمصطلح “سوفيا” أو الحكمة في اللغة اليونانية![7]

 

  • العلاقة بين “سوفيا” و”الصوفية”. يقرر كامل مصطفى الشيبي[8] نقلاً عن بعض مراجع الشيعة[9] أن “تسمية جابر بن حيان بالصوفي ليست منسوبة إلى الصوف وإنما النسبة إلى سوفيا اليونانية بمعنى الحكمة فقيل: سوفي ثم أشبع العرب السين فصارت صوفي وصوفية“![10]

واضح إذن أن وراثة بغداد (وهي عاصمة الخلافة الإسلامية) للإسكندرية (التي كانت عاصمة الحقبة الهلنستية)[11]، قد انتهى إلى اختلاط الحابل بالنابل في الحضارة الإسلامية. وفي هذا السياق كان التقاء الوحي والفلسفة في بغداد من ظواهر التاريخ الذي يعيد نفسه، فما جرى في بغداد أيام العباسيين كان صورة جديدة لما كان يجري في الإسكندرية لحظة ميلاد المسيح.

ومعنى ما سلف هو الآتي: الفلسفة أو الفلسفات التي التقت بالوحي في صورته التوراتية والانجيلية في الإسكندرية التقت مرة أخرى مع الوحي في بغداد، ولكن في صورته القرآنية هذه المرة. كانت بغداد في العصر العباسي ملتقى الفكر الاسلامي والاغريقي والمسيحي واليهودي والفارسي والهندي، مثلما كانت الإسكندرية قبلها ملتقى للفكر الاغريقي والروماني والمسيحي واليهودي والفارسي في الحقبة الهلنستية.

وفي ذات السياق يقول ناقد العقل العربي: “إذا نحن جرّدنا العرفان الشيعي الاثني عشري والإسماعيلي من مضمونه السياسي، وجردنا العرفان الصوفي من الشكل البياني الذي ارتداه، فإننا سنجد أنفسنا هنا وهناك أمام مادة معرفية تنتمي كلها إلى الموروث العرفاني القديم السابق على الإسلام..“![12]

وفي النهاية لم يصمد التزام المتصوفة بالكتاب والسنة أمام مد الأفكار الوافدة من مدارس غير إسلامية، ومنها مدارس الفكر اليهودي والمسيحي والهندي والفارسي حيث يختلط الوحي بالفلسفة، وتختلط الفلسفة بالأساطير. وكان لهذا الخليط أثارًا ظاهرة على الفكر الإسلامي بما في ذلك مآل التصوف وأحوال الصوفية.

وفيما سلف يقرر ابن خلدون أن جماعة من المتصوفة المتأخرين… ذهبوا إلى أن الباري تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته، وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل ارسطو، مثل افلاطون وسقراط… وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح..”! وفي هذا ما يكفي تمهيدًا للنظر فيما آل إليه حال التصوف الإسلامي تأثرًا بالفكر الأوربي.

  • مألات التصوف.

تقرر لدى الفيلسوف الانجليزي ألفريد نورث وايتهد (1861-1947) إن مجمل الفلسفات الغربية ليست شيئًا سوى هوامش على افلاطون! وأنا أقدر هذا الكلام لأن افلاطون قد وصل في فلسفته إلى “الواحد”. وهنا نجد أنفسنا أمام الكلام في الباري عز وجل مرة أخرى، فالواحد عند المسلمين هو الله، لكن هذا التشابه خادع لأن الواحد عند افلاطون هو الوجود، ولذا كانت فكرة وحدة الوجود هي العمود الفقري لفكر الحضارة الغربية. وهذا هو ما سأوجزه الآن، قبل التعرض لانتقال الفكرة إلى الحضارة الإسلامية وظهورها فيها.

  • فكرة وحدة الوجود في الحضارة الغربية. تحول الحضارة الغربية من اغريقية-رومانية إلى يهودية-مسيحية نقل فكرة وحدة الوجود من الفلسفة الاغريقية إلى ديانات أهل الكتاب (اليهود والنصارى) حيث ظهرت فكرة وحدة الوجود في صورة عيسى-الإله، الذي يتوحد فيه المسيحيون ليأخذ هذا الاتحاد -في نهاية التصور المسيحي- مسمى “الكنيسة”.

وبذا يكون الله والمسيح والمسيحيون والكنيسة شيئًا واحدًا عند النصارى! وهذا هو أوضح أثر لعقيدة وحدة الوجود في الفكر المسيحي. من هنا جاءت فكرة أن المسيحية اخذت طابعًا افلاطونيًا، أي أن المسيحية أصبحت عاكسًا لفكرة وحدة الوجود الافلاطونية.

هذا الطابع الافلاطوني من آثار الحقبة الهلنستية (332 ق م – 313 م)، وهي قرابة ستة قرون امتزجت فيها الفلسفة الاغريقية بالدين اليهودي أولاً ثم المسيحي ثانيًا. وقد جرى ذلك كله في الإسكندرية التي عرفت في حينها ما يسمى “الافلاطونية المحدثة”، وهي تطوير لأفكار افلاطون ومن بينها أو أهمها فكرة وحدة الوجود. بعد ذلك انتقل هذا الخليط السام إلى الحضارة الإسلامية حاملاً معه فكرة وحدة الوجود التي تبناها الكثير من متصوفة المسلمين (شيعة وسنة).

  • فكرة وحدة الوجود في الحضارة الإسلامية.

الواحد الذي يسميه افلاطون “الخير” يقابل عالم المادة التي تمثل الشر، ولذا كانت الحكمة في الابتعاد عن المادة في الحياة الدنيا والزهد في مباهجها ومغرياتها، والصوفي هو الحكيم الذي يبتعد عن الدنيا ويزهد في المادة تحاشيًا للشر. هذه هي الحكمة أو “سوفيا” الاغريقية-المسيحية التي تحولت إلى “صوفية” عند المسلمين.

ومن مضامين فكرة وحدة الوجود أن كل مجتهد بإمكانه الاتصال بالله مباشرة دون حاجة للرسل، والطريق إلى ذلك هو المجاهدة حتى يتحد المجتهد في الله أو يحل فيه الإله مثلما حل في المسيح. وعلى هذه الشاكلة ظهرت عبارة “ليس في الجبة إلا الله” عند الحلاج، وعبارة “سبحاني ما أعظم شأني” عند البسطامي، وهو ما عُرف بالشطح عند الصوفية، لأن العبارات شاذة ومستغربة عند الأسوياء من المسلمين.

وقد حاول ابن خلدون أن يلتمس لهؤلاء بعض الأعذار فكان مما قاله إن “الإنصاف في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس… وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور“! وبذا رفع ابن خلدون التكليف (المسئولية) عن المتصوفة! ثم أضاف ليزيد الطين بلة: “إن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله“! والمقصود بالوضع هو “التنظير”، وعبارة “فقدان الوضع” معناها عدم وجود نظرية تشرح كيف يكتسب الصوفي ما يؤهله للاتحاد بالله حتى يقول: “سبحاني ما أعظم شأني” أو رفع الحجاب عنه، وحصول الكشف له، دون غيره.

ومجمل أقوال ابن خلدون في الموضوع أن التصوف موضوع غير علمي، وهو نوع من الدروشة التي تفتح أبواب كثيرة منها السحر والشعوذة. ومع ذلك يحتاط ابن خلدون حتى لا يأخذ البريء بجريرة المذنب فيقول في حق المتصوفة: “من علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل“!

ولم يُظهر كل الفقهاء ذات القدر من الرفق الذي أظهره ابن خلدون في تناول سلوك الصوفية الذي كان محلاً لنقد قاس من أكثر من فقيه وأكثر من مذهب. كان أشد النقاد ابن الجوزي، وفي كتابه تلبيس أبليس تحديدًا [13]، حيث خصص أثني عشر فصلاً في ذاك الكتاب لتلبيس أبليس على أهل التصوف.

وكان ابن الجوزي من الحنابلة الذين اشتهروا بتركيزهم على كل البدع التي ظهرت تلبيسًا من أبليس على الغافلين، فقال بخصوص الصوفية: “وكان أصل تلبيسه عليهم أنه صدهم عن العلم وأراهم أن المقصود العمل فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات“.[14]

لكن الحنابلة لم يكونوا الوحيدين في النعي على المنحرفين عن الصراط المستقيم من المتصوفة، إذ ذهب بعض المالكية إلى أبعد مما ذهب إليه ابن الجوزي. ومن هؤلاء أبو بكر الطرطوشي الذي عاد إلى أغوار التاريخ لتأصيل بعض التصرفات والممارسات التي لا تجد أصلاً في الإسلام وتُنسب إلى التصوف.

في ذاك السياق روى القرطبي في الجامع لأحكام القرآن أن الأمام الطرطوشي سئل عن الصوفية وحكم حضور طارهم ومزمارهم فقال: “مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري لما اتخذ لهم عجلاً جسدًا له خوار قاموا يرقصون حواليه..”![15]

وهناك باب آخر لا أستطيع الخوض فيه الآن، ويستحق معالجة منفصلة، وهو استغلال أحد المستشرقين[16] لمحنة الحلاج لتصويره على أنه مسيح إسلامي، لأن الحلاج مات على الصليب فكانت نهايته صورة إسلامية لنهاية المسيح في الأساطير المسيحية [17]. لذا سأختم الآن على أمل العودة إلى موضوع التصوف وسوء استغلال المتصوفة من عدة جهات اجنبية، في مناسبة أخرى.

الخاتمة: المعتزلة والمتصوفة انطلقا من نفس المنطلق وانتهيا في نفس المطب. انطلق الفريقان من القرآن والإسلام، وانتهى الفريقان حيث انتهت بهم الفلسفة الإغريقية: (في مذهب وحدة الوجود)، ولكن كل فريق من طريق. متأخري المعتزلة انتهوا إلى وحدة الوجود من طريق “العقل يحكم العالم” وهي قاعدة من وضع أناكساغوراس[18] الذي قال: “العقل هو الذي نظم كل شيء وأنه العلة لكل الأشياء“! ومتأخري المتصوفة انتهوا إلى وحدة الوجود من طريق الاتحاد والحلول، وهو مذهب افلاطون ومن مقررات الافلاطونية المحدثة والفلسفة الاغريقية التي انتقلت من ضمن ما انتقل إلى اليهودية والمسيحية ثم الإسلام!

 

[1] وكان القديس أوغسطين ممن تأثر بالمانوية قبل المسيحية.

[2] وقد سمى المسلمون هذا الإرث “علوم الأوائل”.

[3] هيجل ممن يقول العقل هو الله! راجع بالخصوص كتابي بين يدي الدستور، إسطنبول، دار منابع النور، 2021

[4] منهم عمرو بن عبيد من رفاق واصل بن عطاء، وأبو هذيل العلاف المعاصر للجاحظ، وابراهيم النظام، وثمامة بن الاشرس. وكان هذا الأخير من أساتذة الجاحظ ومن خاصة المأمون ومستشاريه.

[5] الفصل السابع عشر من المقدمة. وكل الاستشهادات والفقرات المتعلقة بابن خلدون من هذا الفصل.

[6] ولذلك حرمها بعض العلماء ومنهم ابن تيمية. وقد بقى السحر والكيمياء مختلطان حتى القرن الثامن عشر.

[7] ينقل ابن خلدون بخصوص غرابة المصطلح أن القشيري قد قال: “لا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال اشتقاقه من الصفاء أو الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي، وكذلك الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه”.

[8] في كتابه الصلة بين التشيع والتصوف، الطبعة الثانية، دار المعارف بمصر.

[9] ذكر منهم الشيبي: هبة الدين الشهرستاني وشيخ الشريعة الأصفهاني.

[10] المرجع السابق، ص 267.

[11] الحقبة الهلنستية معناها الحقبة اليونانية لأن هيليني = يوناني، وهي حقبة لقاء اليهودية والمسيحية بالفلسفة والاساطير اليونانية.

[12] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 1991، ص 372.

[13] ابن الجوزي، تلبيس ابليس، بيروت، دار الفكر.

[14] المرجع السابق، ص 158.

[15] في تفسير آيات السامري من سورة طه.

[16] لويس ماسينيون (1883-1962)

[17] يقول نيتشه: من بركات المسيحية إنها تجبر الإنسانية على انتاج نقيضها من صلبها. وهذا هو ما فعلته بركات ماسنيون في الواقع، عندما أجبر الحضارة الإسلامية على انتاج نقيضها من صلبها في صورة الحلاج (مسيحًا) على الصليب.

[18] من فلاسفة الاغريق في القرن الخامس قبل الميلاد (500-428 ق م). راجع بالخصوص الجابري، تكوين العقل العربي، مرجع سابق، ص 19.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى