اجتماعيةمقالاتمقالات تربوية

ما الذي يُمَثِّلُهُ “رمضان” للإنسان؟

 

د. عطية عدلان

ليس من اللافت للنظر والمثير للانتباه أنْ نرى فرحةَ المسلمين بقدومِ رمضانَ غامرةً وعامّة؟ تغمر وتعُمّ الكبار والصغار، والعلماء والدهماء، والنُّسّاك والفُسّاق؛ لماذا لا نقف عند هذه الظاهرة التي لا يزيدها مَرُّ العصور وكَرُّ الدهور إلا توهجا وبريقا، ونحاول أن نَسْتَكْنِهَ أسرارها ونُسْبِرَ أغوارها؟ فلعل ذلك يفيدنا في فهم طبيعة التشريع وما بينها وبين طبيعة الإنسان من علاقة، ولعلنا إن نجحنا في ذلك نجد سبيلا إلى تعظيم الاستفادة من الشهر المعظم، وإلى الخروج منه بأنضج ثمرة وأيْنَعِها.

إنّك كادحٌ في سفرٍ طويل فهلّا استروحتَ قليلا؟

قد لا تشعر بمضيّ القطار وجريانه إذا قَصَرْتَ النَّظَرَ عليه وحبسته بين جانبيه، فإذا ما حانت منك إطلالة من إحدى نوافذه، ورأيت الأشجار والديار تجري إلى الوراء في سباق لا يتوقف؛ أدركت أنّك تمضي إلى غايتك وَتُخَلِّفُ كلَّ شيء تمر به وراء ظهرك، إنّك يا صديقي مسافر مثلي ومثل كل من تراهم من حولك، وحالك لا يبرح وصف القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، والمسافر الكادحُ في سفره المكابدُ للمشاقِّ والمخاطر لابد له من استرواحة يستروحها كل حين؛ لأجل ذلك وضعت لك الشريعة الغراء على الطريق الطويل “محطات” تحط فيها رحالك وتنفض فيها أزبالك وتتزود منها لسفرك وترحالك، وتعيد فيها تجديد الطاقة اللازمة للمضي قدما، هذه “المحطات” المنتظمة على الطريق هي رمضان الذي ينتظرك كل عام؛ فهل أدركت سرّ سرورك الفطريّ به؟

إنّ طبيعة الإنسان – الذي يمضي بلا توقف من مهده إلى لحده – هي طبيعة ذلك المسافر المكابد في سفره الكادح في سيره، وبما أنّ الرحمن الذي خلق الإنسان هو ذاته الرحمن الذي علم القرآن (الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3))؛ فإنّه من الطبيعيّ أن تأتي شريعة الرحمن متسقة ومنسجمة مع طبيعة الإنسان، وتفريعا على هذه الحقيقة الكلية جاء رمضان ملبيًا لحاجة الإنسان المسافرِ أبدًا والمكابد دومًا للاسترواح، وهذا هو سرّ السرور ومنبع الحبور، هذا هو السبب الذي يدفعنا جميعا دون أن نشعر للفرح الغامر بشهر رمضان المعظم، على الرغم مما فيه من نَصَبِ الصيام وَوَصَبِ السهر والقيام.

لا تُفَوّت الفرصة وترحل بغير زاد

وإذْ أدركْتَ ذلك وفهمْتَ لماذا أنت مسرور برمضان؛ فلا ترتكب في حقّ نفسك حماقة قد تجعلك تنقطع بعد ذلك وتقع في الإبلاس، لا تُفَوِّتْ الفرصة فترحل بغير زاد، لتواصل سيرك وأنت خاوي الوفاض، لا يفوتنك نفضُ الأذى بالاستغفار في الغداة والعشيّ والأسحار، ولا تجديدُ الطاقة بتلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ولا إحياءُ القلب بالتزلف والدعاء لله الواحد القهار، لا يفوتنك التزود من التقوى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى)، فما شُرع الصيام إلا لتحصيل ثمرة التقوى؛ قال الله في أول آيات الصيام: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وقال في آخرها: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

قد لا يشعر الصائم كيف يصبّ صيامُهُ التقوى في قلبه، وقد لا يستطيع المتأمل الإحاطة بسر ذلك، لكنْ بإمكاننا أن نرقُب بعض الروافد التي تنحدر منها مكونات التقوى إلى قلب الصائم، فالصائم يخلو بنفسه ويتوارى عن أعين الخلق، ومع ذلك لا يمكن أن تحدثه نفسه بأن يخرق صيامه بشربة ماء تطفئ ظمأه أو مزعة طعام تمسك رمقه، أو نزعة شهوة تخفف من لوعته؛ لماذا؟ لأنّه يعلم أنّ الله يراه، وهذا هو رافد المراقبة، وهو رافد يُسْتَصْحَبُ في كل وقت وعلى أيّ حال ومع أيّ تصرف، أمّا الرافد الثاني فهو رافد الامتثال، الذي يُطْبَعُ عليه المسلم طبْعًا في رمضان؛ لأنّ الله تعالى مَنَعَهُ أمورًا لم تكن في الأصل ممنوعة، وحدد للمنع وقتًا، فامتنع عنها في الوقت المحدد، ودام على ذلك الشهر كله، فصار الامتثال له طبعا ملازما، وأمّا الرافد الثالث فينبع ويسيل من بين الشقين المتدافعين: الجسد والروح، وذلك عندما يخفف الصيام من وطأة الجسد ومن هيمنة المادة؛ لتخفّ الروح وتحلق، وتخفُت الشهوة وتنزوي، فتلك روافد ثلاثة تصب في قلب الصائم المكونات الرئيسية لمادة التقوى.

لقد تهيأت لك الأجواء فانطلق

ألست تشعر في رمضان بالخفة والسرعة إلى العبادة؟ ألست تشعر بروحانية وخشوع قلب؟ أليس هذا الشعور طافيا طاغيا يجتاح النفس بلا كلفة؟ هل سألت نفسك يوما لماذا يأتي هذا الشعور وكيف يأتي؟ قد يكون بسبب تأثير الصيام على علاقة الجسد بالروح، بما يخفف من وطأة الجسد ومن قيوده على الروح، وقد يكون بسبب أنّ القيام مع الصيام إذا تزينا بتلاوة القرآن وترديد الذكر والدعاء يُنَقّي النفس ويُرَقّي الروح، كل ذلك وغيره صحيح، لكن لا يزال هناك شعور بأنّ هناك أسبابًا كَوْنية وَهْبِيَّةً إلى جانب هذه الأسباب الإرادية الكَسْبِيّة، فماذا يمكن أن تكون؟

هل نسيت أنّ رمضان هو الظرف الزمانيّ الذي شرف بنزول القرآن؟ وهل نسيت أنّه يحوي في أحشائه ليلة تنزّل فيها القرآن، وتتنزل فيها الملائكة بأمر الرحمن؟ فإذا أضفت إلى ذلك أنّ فيه تُصَفد الشياطين، فَتَخْفُت وسوستها، وتُوصَد أبواب النار فينزوي شؤمها، وتُفتح أبواب الجنة على مصاريعها فينتشر في الوجود بِشْرُها؛ والنتيجة التي نذهل عنها هي أنّها تهيئة كونية ربانية، تهيئة وتوطدة للعباد الذين استجابوا لربهم وأسلموا وأنابوا له، أمّا الثمرة فهي الانطلاق الوثّاب.

لا تقبض يدك عن الجائزة

أمّا الجائزة فهي هذه: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، هل لفت نظرك أنّ السياق انقطع؛ لينعطف الحديث إلى هذه الربوة الزهراء؟ والسياق القرآنيّ لا يلتفت بهذه الطريقة المفاجئة إلا لفائدة، وهي هنا الإشارة إلى الجائزة، فجائزتك في رمضان الدعاء المستجاب، فانخرِطْ في الدعاء، وتعلم فنّ الدعاء، تعلم كيف تدخل على ربك بالحمد والثناء، وتعلم كيف تشد أوتار قلبك بالافتقار والانكسار؛ حتى تخرج الدعوة كخروج السهم من القوس المشدود، تقبل الله منّا ومنك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى