مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

معالم النصر والتمكين من خلال سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي (3)

معالم النصر والتمكين من خلال سيرة الملك العادل نور الدين الزنكي (3)

العدل في مسيرة نور الدين الزنكي

 

د. علي محمد الصلابي

 

 

إنَّ من أهداف الحكم الإسلامي الحرصَ على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ، ومن أهم هذه القواعد: العدل ، قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ﴾ [النحل :90] . وأمرُ الله بفعلٍ ـ كما هو معلوم ـ يقتضي وجوبه ، وقال تعالى:﴿۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تُؤَدُّواْ ٱلۡأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهۡلِهَا وَإِذَا حَكَمۡتُم بَيۡنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحۡكُمُواْ بِٱلۡعَدۡلِۚ﴾ [النساء :58].

وقال تعالى:﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلۡقِسۡطِ شُهَدَآءَ لِلَّهِ وَلَوۡ عَلَىٰٓ أَنفُسِكُمۡ أَوِ ٱلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَۚ إِن يَكُنۡ غَنِيًّا أَوۡ فَقِيرٗا فَٱللَّهُ أَوۡلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلۡهَوَىٰٓ أَن تَعۡدِلُواْۚ وَإِن تَلۡوُۥٓاْ أَوۡ تُعۡرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٗا ١٣٥﴾ [النساء :135]

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  : «أشد الناس يوم القيامة عذاباً إمام جائر». (الجامع الصغير للسيوطي رقم الحديث 1050)

والعدل أساس الحكم، وإقامته بين الناس في الدين الإسلامي يُعدُّ من أقدس الواجبات ، وأهمِّها ، وقد اجتمعت الأمة على وجوب العدل (فقه التمكين في القران الكريم للصَّلاَّبي ص 455)

ولقد كان نور الدين محمود زنكي قدوة في عدله ، أسر القلوب ، وبهر العقول ، فقد كانت سياسته تقوم على العدل الشامل بين الناس ، وقد نجح في ذلك على صعيد الواقع والتطبيق نجاحاً منقطع النظير ، حتى اقترن اسمه بالعدل ، وسمي بالملك العادل ، وكان من أسباب نصر الله لهذا الملك العادل على الباطنية، والصليبيين إقامته للعدل في الرعية، وإيصال الحقوق إلى أهلها ، فالعدل في الرعية ، وإنصاف المظلوم يبعث في الأمة العزة والكرامة ، ويولد جيلاً محارباً ، وأمةً تحرر إرادتها بدفع الظلم عنها ، ورعيةً تحب حكَّامها ، وتطيعهم؛ لأنهم أقاموا العدل على أنفسهم ، وأقاموا العدل على غيرهم.

وأما الظلم فهو ظلمات في الدنيا والاخرة ، وهو يؤذن بزوال الدول ، وقد حرم الله الظلم على نفسه. فقد قال في الحديث القدسي: «يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا». وقال تعالى: ﴿ٱحۡشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزۡوَٰجَهُمۡ وَمَا كَانُواْ يَعۡبُدُونَ ٢٢﴾ [الصافات : 22] وقال تعالى: ﴿فَتِلۡكَ بُيُوتُهُمۡ خَاوِيَةَۢ بِمَا ظَلَمُوٓاْۚ﴾ [النمل : 52] . (مختصر صحيح مسلم للمنذري رقم 1828)

وقد سجَّل التاريخ بأن نور الدين محمود ساد العدل في دولته، وتمَّ إيصال حقوق الناس إليهم ، فنشطوا في الجهاد، والدفاع عن دينهم ، وعقيدتهم ، وأوطانهم ، وأعراضهم ، ومن أبرز أعماله الإصلاحية والتجديدية: إقامته للعدل في دولته. وقد أولى نور الدين المؤسسة القضائية اهتماماً كبيراً ، وجعلها في قمة أجهزته الإدارية ، وخوَّل القضاة على اختلاف درجاتهم في سلَّم المناصب القضائية صلاحيات واسعة ـ إن لم نقل مطلقة ـ ومنحهم استقلالاً تاماً ، لكونهم الأداة التنفيذية لإقرار مبادئ الحق والعدل ، وتحويل قيم الشريعة ، ومبادئها إلى واقع ملتزم ، وتوِّجت جهوده بإنشاء دار العدل ، التي كانت بمثابة محكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين ، وإرغامهم على سلوك المحجة البيضاء، أو طردهم واستبدالهم بغيرهم إن اقتضى الأمر.

وكان شعاره ما أكده لأصحابه مراراً: «حرامٌ على كلِّ من صحبني ألا يرفع إلي قصة مظلوم لا يستطيع الوصول إليَّ». (دروس وتأملات في الحروب الصليبية ص 205)

1 ـ دار العدل أو المحكمة العليا: كانت قمة إجراءاته القضائية إنشاءه داراً في دمشق، لكشف المظالم سمَّاها (دار العدل) ، وكانت أشبه بمحكمة عليا لمحاسبة كبار الموظفين ، ثم عُمِّمَتْ صلاحياتها ، فامتدت أقضيتها إلى سائر أبناء الأمة ، وقد جاء إنشاؤها بسبب تزايد عددٍ من كبار الأمراء في دمشق ، وبخاصة أسد الدين شيركوه ، وتماديهم في اقتناء الأملاك ، وتجاوز بعضهم حقوق البعض الاخر ، فكثرت الشكوى إلى قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري ، فأنصف بعضهم من بعض ، لكنه لم يقدر على الإنصاف من شيركوه ، فأنهى الحال إلى نور الدين ، فأصدر أمره حينئذٍ ببناء دار العدل.

2 ـ استجابته للقضاء: طُلِبَ مرة من قبل أحد المدعين ، فما كان من أحد كبار موظفيه إلا أن دخل عليه ضاحكاً ، وقال مستهزئاً: يقوم المولى إلى مجلس الحكم ، فأنكر نور الدين على الرجل سخريته ، وقال: تستهزئ لطلبي إلى مجلس الحكم؟ وأردف: يُحْضَرُ فرسي؛ حتى نركب إليه ، السمع والطاعة ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ إِذَا دُعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَهُمۡ أَن يَقُولُواْ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ﴾ [النور:51] .

ثم نهض ، وركب؛ حتى دخل باب المدينة ، واستدعى أحد أصحابه وقال له: امضِ إلى القاضي ، وسلِّم عليه ، وقل له: إني جئت هاهنا امتثالاً لأمر الشرع.

ويوماً كان يلعب الكرة ـ هوايته المفضلة ـ في دمشق ، فرأى رجلاً من أتباعه ، يحدِّثُ اخر ، ويومئ بيده إليه ، فأرسل إليه يسأله عن حاله ، فأعلمه: أن له على نور الدين خصومة حول بعض الأملاك ، وطلب حضوره إلى مجلس القضاء للفصل في المسألة ، فتردد الغلام في عرض الموضوع على نور الدين ، ولكن هذا ألح عليه، فلما تبين له الأمر ألقى العصا من يده ، وخرج من الميدان ، وسار إلى القاضي ، كمال الدين وقال له: إنني قد جئت محاكَماً ، فاسلك معي ما تسلكه مع غيري ، فلما حضر المدعي ساوى كمال الدين بينه وبين خصمه ، وحين لم يثبت ضدَّه شيء قال للقاضي ولكافة الحضور: هل ثبت له عندي حق؟ قالوا: لا. فقال: اشهدوا أنني قد وهبت له هذا المال الذي حاكمني عليه ، وقد كنت أعلم: أنه لا حق له عندي ، وإنما حضرت لئلا يظنَّ أنني ظلمته ، فحيثما ظهر أنَّ الحق؛ لي وهبته إياه. (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 76)

وتلك غاية العدل والإنصاف ، بل غاية الإحسان ، وهي درجة وراء العدل، فرحم الله هذه النفس الذكية الطاهرة المنقادة إلى الحق ، الواقفة معه ، كما علَّق ابن الأثير.

وفي عام 558 هـ  1162م ادَّعى رجل على نور الدين أنّ أباه (زنكي) أخذ من ماله شيئاً بغير حق ، وأنه يطالب بذلك. فقال نور الدين: أنا لا أعلم شيئاً عن ذلك ، فإن كان لك بَـيِّـنَـةٌ تشهد بذلك؛ فهاتها ، وأنا أرد إليك ما يخصني ، فإني ما ورثت جميع ماله ، فقد كان هناك ورثة غيري ، فمضى الرجل ليحضر البينة. (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 80)

3 ـ لا عقوبة على الظنة والتهمة: لم يكن نور الدين يصدر العقوبة على الظنة والتهمة ، بل يطلب الشهود على المتهم، فإن قامت عليه البينة الشرعية؛ عاقبه العقوبة العادلة من غير تعدٍّ، فدفع الله بهذا الفعل عن الناس من الشر ما يوجد في غير ولايته مع شدة السياسة ، والمبالغة في العقوبة ، والأخذ بالظنة ، وأمنت بلاده مع سعتها ، وقلَّ المفسدون ببركة العدل ، واتِّباع الشرع المطهر.

إنَّ العدل الشامل لا يتحقَّق ، إلا بتطبيق شرع الله تطبيقاً قائماً على الفهم الصحيح ، للكتاب والسنة والمعرفة الدقيقة بالواقع من ناحية ، وبمقاصد الشريعة الإسلامية من ناحية أخرى ، وهو أمر لايتحقَّق إلا بتكوين العدد المناسب من العلماء المجتهدين النابهين. (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 80)

 

ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “الدولة الزنكية” للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • من أخلاق النصر في جيل الصحابة د.السيد محمد نوح.
  • عيون الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب الدين بن إسماعيل المقدسي.
  • دور نور الدين محمود في نهضة الأمة، عبد القادر أحمد أبو صيني.
  • نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
  • هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ماجد عرسان الكيلاني.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى