معاهدة الرسول على نصرة الإسلام بعد وفاته
بقلم: د. مسعود صبري
نجد بعض المسلمين من شدة حبهم وشوقهم وتعلقهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن نواياهم ينادون الرسول صلى الله عليه وسلم ويعاهدونه على فعل الخير والطاعات، كأن يقول: أعاهدك يا رسول الله على نصرة الإسلام، أو: نعاهدك يا رسول الله على نصرة الأقصى والحفاظ على المسرى، أو نحو ذلك من العبارات، وقد يجد بعض الناس في تلك المعاهدة أو المناداة حرجاً شرعياً؛ على اعتبار أنها أشبه بالاستغاثة أو التوسل.
وهذه المسألة تندرج تحت مناداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي على أحوال، كما ذكر العلماء، ومن أهمها:
أولاً: دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن يقول: يا رسول الله، اشفني، أو فرِّج كربي.. ونحو ذلك، وهو من الأمور المحرمة؛ فإن الله تعالى هو المقصود بالحاجات، وهو قاضيها، وهو سبحانه الذي يتوجه إليه بالدعاء والطلب، هكذا علمنا القرآن الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهكذا علمنا رسولنا صلى الله عليه وسلم، والآيات والأحاديث الدالة على ذلك كثيرة، منها على سبيل المثال، حكاية القرآن عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين: (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) (الجن: 20)، المقصود به هنا دعاء العبادة؛ لأن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة.
ودعاء العبادة هو الثناء على الله بما هو أهله، ودعاء المسألة هو طلب الحاجات من رب البريات، وقد يقصد بالدعاء الأمرين، كما في قوله تعالى: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ {55} وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف)، وقوله: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة: 186)، وغير ذلك من الآيات.
ثانياً: مناداته بقصد الاستغاثة، والراجح منع الاستغاثة به صلى الله عليه وسلم بعد مماته، مع الخلاف الوارد في ذلك بين العلماء من الجواز المطلق في الحياة والممات، ومن الجواز في الحياة لا بعد الممات، ومن المنع مطلقاً، فالأصل في الاستغاثة أن تكون من الله؛ لقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5)، وقوله: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62)، ودليل المنع قوله تعالى: (وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ) (يونس: 106)، كما يستشهد بالمنع بما رواه الطبراني بسنده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله”.
ثالثاً: مناداته بقصد الصلاة عليه، وهذا مشروع بلا خلاف، ودليله ما أخرجه أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما من أحد يسلم عليَّ إلا رد الله عليَّ روحي؛ حتى أرد عليه السلام”، وغيره من الأحاديث.
رابعاً: مناداته بقصد الإخبار، كأن يقول: يا رسول الله، انظر إلى حال أمتك كيف هي؟ أو أعاهدك يا رسول الله على نصرة سنتك ونحو هذا، فهذا مما لا بأس به؛ لأنه ليس استغاثة ولا دعاء ولا توسلاً.
والحديث مع الميت من الأمور الجائزة شرعاً، ويدل عليه جواز إلقاء السلام على الميت، كما هو من سنن زيارة الموتى، كما أخرج مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: “السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين”.
وكما ورد من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لموتى “بدر” من المشركين، كما في صحيحي مسلم وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع عمر بين مكة والمدينة، فتراءَينا الهلالَ، وكنتُ رجلاً حديدَ البصر، فرأيتُه، وليس أحد يزعم أنه رآه غيري، فجعلت أقول لعمر: أما تراه؟ فجعل لا يراه، قال: يقول عمر: سأراه، وأنا مُسْتَلْق على فراشي، ثم أنشأ يحدِّثنا عن أهل “بدر”، فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، كان يُرِينا مَصارعَ أهل “بدر” بالأمس، يقول: “هذا مصرع فلان غداً إن شاء الله، وهذا مصرع فلان إن شاء الله”، قال عمر: فوالذي بعثه بالحق ما أخطؤوا الحدودَ التي حدَّها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال: فجُعلوا في بئر بعضُهم على بعض، فانطلق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إليهم، فقال: “يا فلان بنَ فلان، ويا فلان بن فلان، هل وجدتم ما وعدكم الله ورسولُه حقاً، فإني قد وجدتُ ما وعدني الله حقاً؟”، فقال عمر: يا رسولَ الله، كيف تُكلِّم أجساداً لا أرْوَاحَ فيها؟ فقال: “ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم، غير أنهم لا يستطيعون أن يردُّوا عليَّ شيئاً”.
وقال الطبري: «القول في معاني هذه الأخبار اختلف السلف من علماء الأمة في معاني هذه الأخبار، فقال جماعة يكثر عددها بتصحيحها، وتصحيح القول بظاهرها وعمومها، وقالوا: الميت بعد موته يسمع كلام الأحياء».
وقال الإمام القرطبي في «التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة» (ص410): وقد ذكر ابن عبدالبر في كتاب التمهيد والاستذكار من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام”.
كما ورد في كتب الأحناف أن يقول زائر الروضة الشريفة: «السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا خير خلق الله، السلام عليك يا خيرة الله من جميع خلقه، السلام عليك يا حبيب الله، السلام عليك يا سيد ولد آدم، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، يا رسول الله، إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنك عبده ورسوله، وأشهد أنك يا رسول الله قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وكشفت الغمة فجزاك الله عنا خيراً، جازاك الله عنا أفضل ما جازى نبياً عن أمته، اللهم أعط سيدنا عبدك ورسولك محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وابعثه المقام المحمود الذي وعدته، وأنزله المنزل المقرب عندك إنك سبحانك ذو الفضل العظيم، ويسأل الله تعالى حاجته» (فتح القدير 2 / 336 – 337).
ثم إن معاهدة الرسول على نصرة دينه وشريعته واجب شرعاً في أصله، كما قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران: 81)، فيكون مناداة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر من باب تجديد العهد وليس إنشاء جديداً، وتشهد لصحته الآية المذكورة.
كما أن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم وإشهاد الله على ذلك من الأمور المشروعة، كما قال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (الحديد: 8)، وأصرح منها قوله تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: 18).
فمعاهدة النبي صلى الله عليه وسلم على نصرة دين الله ونصرة سُنته أو شيء من الأمور المشروعة ليس داخلاً في التوسل ولا الاستغاثة ولا الدعاء المنهي عنه، وإنما هو من الأمور المسكوت عنها، التي تدخل في باب الجواز؛ بدلالات من الكتاب والسُّنة.