مقالات فكرية

مفهوم البدعة في منهج الفكر الإسلامي المعتدل

لاستاذ / فرحات الهوني

مفهوم البدعة من أكبر القضايا الجدلية التي خاض فيها العاملون في الحقل الدعوي، وعلى مفهومها تفرقت جماعات فكلما جاءت جماعة لعنة أختها على الخلاف القائم على هذا المفهوم، وكل منها يدعي الصواب، وقد ضاع مفهوم البدعة بين الغالي فيه الذي يبدع ويفسق كل جديد وبين الجافي عنه الذي أباح كل الشطحات المخالفة لصريح القرآن والسنة. ولقد وجدت مجموعات من المسلمين لا يفرقون بين بدعة في الدين وبدعة في الدنيا… فتراهم يتشددون في بدعة الدين… ويفعلون الأمر ذاته في بدع الدنيا.. ابتداء من الوسائل المختلفة التي يسّرها الله لعباده.. وهذا الأمر من أسباب تخلف المسلمين وتراجع مكانتهم بين الأمم.
يقول الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في كتابه دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين: “الابتداع في الدين نزعة تسيطر على نفر من المتدينين، وتزين لهم أن يخترعوا من عند أنفسهم أفعالا وأحوالا ثم يجعلوها ضميمة أو جزءا من الدين الإلهي ويطلبون إلى الناس الأخذ بها، كما يأخذون ما جاء من عند الله سواء بسواء”.
لقد جعل الله للطاعة شرطين لا تُقبل الأعمال إلا بهما هما الإخلاص واتباع الشرع في أداء العبادة، قال تعالى في الآية الأخيرة من سورة الكهف: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا)، ولا يكون العمل صالحًا إلا كان موافقًا للشرع متبعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” وأمرنا هو الدين وما ليس منه معناه غير موافق لقواعد الشريعة وهو رد: أي باطل إما أن يكون بدعة لا أصل لها أو فعلاً حرامًا، وفي رواية أخرى: “من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد”، فيشمل ذلك البدعة والفعل الحرام؛ ذلك لأن الدين هو ما شرعه الله على لسان نبيه من العقائد والعبادات والمعاملات، وقال ابن حجر عن هذا الحديث: “هو أصل من أصول الإسلام وقاعدة عظيمة من قواعده ومعناه من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله لا يلتفت إليه”.
والبدعة الضلالة هي ما كانت في أمور الدين.. أما ما كانت في شؤون الدنيا فهي مطلوبة يحض الإسلام عليها.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) .. ولقد أهمل المسلمون -وخاصة في عصور الانحطاط – العلوم التي تطور شؤون حياتهم الصناعية والزراعية والطبية والعلمية فانحدروا. ولن تستطيع الأمة المسلمة أن تتبوأ مكانها اللائق بين الأمم حتى تأخذ بأسباب النماء الفكري والعلمي.. وأن تسبق غيرها في الاكتشافات المفيدة.. لتكون خير أمة أخرجت للناس.
ويقول الشيخ محمد الغزالي: “المتدينون بددوا طاقتهم العقلية في اختراع ما لا قيمة له ولا خير فيه، والأصل في شؤون الدين الاتباع وفي شؤون الدنيا الابتداع – لحديث أنتم أعلم بشؤون دنياكم ولكن هؤلاء المحولين قلبوا الآية فطوروا تعاليم الدين وحمدوا شؤون الدنيا، وكان ذلك سببا في تخلف الأمم وضياع رشدها”.

اختلاف العلماء في تعريف البدعة وتناولها:

– الفريق الأول يرى أن البدعة شيء واحد وأن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وهؤلاء يقصدون البدعة الشرعية الضلالة والحادث المذموم وينظرون إلى أعمال الخير المحدثة أنها من المصالح المرسلة أو من عموم ما ندب إليه الله ورسوله وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: “أما البدع الواجبة فهي من قبيل المصالح المرسلة مثال ذلك جمع القرآن وصلاة التراويح جماعة فهي داخلة في عموم ما ندب إليه الله ورسوله”
– أما الفريق الثاني فيرى أن البدعة تطلق على كل ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعناها اللغوي العام وأن منها الحسن والسيئ وأن الحسن هو ما وافق أصول الشرع والسيئ ما لا أصل لها في الدين وهي بالتالي على معنى البدعة الضلالة عند الفريق الأول وهذه بعض أقوال العلماء في الكلام عن البدع من الفريق الثاني (البدعة اللغوية) :- قالوا عن البدعة: تطلق على كل مستحدث ليس له سابق سواء كان محموداً أو مذموماً .
– يقول الشافعي رحمه الله: “المحدثات ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهذه البدعة الضلال، والثاني ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لأحد فهي محدثة غير مذمومة ويقول أيضاً: البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم.”
– يقول ابن العربي: “المحدث نوعان محدث ليس له أصل إلا الشهوة والهوى فهذا باطل والمحدث يحمل النظير إلى النظر فهذه سنة من الخلفاء والأئمة الفضلاء.”
– يقول الإمام الشاطبي عن البدعة: “هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه”.
– ويقول ابن حزم: “البدعة في الدين كل ما لم يأتِ في القرآن ولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنها منهما ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد من الخير ويكون حسناً وهو ما كان أصله الإباحة أي فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص، ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده.”
– يقول ابن رجب الحنبلي: “البدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة أصلاً.”
– ويقول الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة: “اعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قاس عليها فهو بدعة حسنة وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة.

– وعلى ذلك يرى الفريق الثاني فعل عمر بن الخطاب عندما جمع الناس على إمام واحد في صلاة التراويح في رمضان أنه بدعة حسنة ويؤيد ذلك قول عمر: (حسنت البدعة) ومثلها أيضاً جمع القرآن بينما يرى الفريق الأول أن هذه الأعمال من المصالح المرسلة وأن قول عمر حسنت البدعة على سبيل المجاز وبالتالي يكون هناك بدعة حقيقية وبدعة مجازية أو بمعنى آخر لغوية وليست شرعية اصطلاحية.
ومن هنا كان مفهوم منهج الفكر الوسطي المعتدل للبدعة على أنه “وكل بدعة في دين الله لا أصل لها ـ استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه وبالنقص منه ـ ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما شر منها”.
ويبين هذا المنهج “والبدعة الإضافية والتَّركِية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان”.
واعتبـر الأصـل الأول تعريفا للبدعة المتفق على إطلاق هذا الاسم عليهـا والتـي هـي ضلالة وفي النار بقوله: (وكل بدعة في دين الله لا أصل لها استحسنها الناس بأهوائهم سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه ضلالة).
يقول الدكتور عبد الله قاسم الوشلي في كتابه النهج المبين: “وهذا التعريف للبدعة لم يكن هذا الفكر من وضـعه، وإنمـا ضمته كثير من تعاريف أهل العلم من رجال الحديث والفقه. قال الربيع: قال الشافعي رحمه الله تعالى: المحدثات ضربان: أحدهما: ما أحدث ما يخالف كليا أو سنة أو الجماعة أو القراء فهذه البدعة الضلالة، والتـقي: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لأحد، من هذا فهي محدثة غير مذمومة”
ويقسم الدكتور عبد الله قاسم الوشلي في كتابه النهج المبين إلى ثلاثة أنواع:

البدعة الإضافية: أما البدع الإضافية، فهي أشياء دينية الأصل أوتي بها على هيئة لم يقل بها الدين.

البـدع التركيـة: ومن البدع ما هو فعلي وتركي، والقاعدة الكاشفة لذلك أن ما تركه النبي -صلى الله عليه وسلم- مع وجود الداعي وانتفاء المانع، فتركه سنة وفعله بدعة

بدعة الالتزام في العبادات المطلقة: هي تحديد ما أطلقه الشارع من الأقوال والأفعال بزمان أو مكان أو عدد لـم يكن الشارع حدده بذلك.

“البدعة الإضافية والتَّركِية والالتزام في العبادات المطلقة خلاف فقهي، لكل فيه رأيه، ولا بأس بتمحيص الحقيقة بالدليل والبرهان.”
يضيف الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – “والابتداع، وإن كان مرفوضا جملة وتفصيلاً، إلا أنه متفاوت الخطر والضرر، إذ هو كالعصيان لا يقبل شيء منه أصلا ولكن منه صغائر وكبائر، وللصغائر حكمها ، وللكبائر حكمها . .
وقد رأيت بعض المعنيين بالسنة يسوي بين الأمرين، ويعامل المبتدع الصغير بنفس الشراسة التي يعامل بها المبتدع الكبير، متعللا بالحديث «كل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار».
قلت له: أرأيت قوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) إنني لا أستطيع تطبيق الآية على مقترٍ في الصغائر، وإن كانت لونا من العصيان”.

أضرار البدعة المذمومة (الضلالة):

البدعة اتهام للدين بعدم الاكتمال والله تعالى يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فلا يجوز الزيادة على الدين والأصل في التعبد التوقف والاتّباع.

البدعة بجانب أنها تتهم الشريعة بالنقص فإنها تهدم السنن وتزيد على الأحكام مما يحدث المبالغة والمشقة على الناس وإذا فتح باب الزيادة فلن يقف عند حد وكلما زاد الناس بأهوائهم قلّت السنن وزادت المشقة على الخلق.

الاهتمام بالبدع في الدين يؤدي إلى وقف الابتداع في الدنيا فتفسد الدنيا والدين.

البدعة تؤدي إلى الاختلاف والفراق في الدين.

التوسط والاعتدال في فهم البدعة من عدة قضايا: –

البدعة الضلالة هي التي لا أصل لها في الدين

الابتداع يكون بالزيادة في الدين أو النقص منه وكلاهما مرفوض

أسباب الابتداع اتباع الهوى.

وجوب محاربة البدع والقضاء عليها لخطورتها على الدين

محاربة البدع يكون بأفضل الوسائل، وإزالة المنكر شرطه ألا يؤدي إلى منكر أكبر

البدعة الخلافية تكون في البدع الإضافية والتركية والإلزام في العبادات المطلقة

البدعة الخلافية غير البدع الحقيقية في القدر والذم والعاقبة

الأمور الخلافية ليست من البدع

لا بأس من مناقشة الأمور الخلافية بالدليل والبرهان، فوجب احترام الدليل لإلغاء الهوى.

كيفية مواجهة البدع التي يمكننا أن نلخصها فيما يلي من النقاط:-
– لا بد أولاً من محاربة البدع والعمل على إزالتها لأن وجودها خطر على العقيدة والشريعة وتسبب فرقة الجماعات واضطراب الأفراد.
– الاعتماد على التقوى والإيمان والترغيب والترهيب من الابتداع وتربية النفوس على حب اتّباع السنة والبعد عن البدع وما يشابهها فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه فنأخذ بالثابت الواضح ونبتعد عما فيه خلاف.
– من المهم التوسط والتوازن في التعامل مع كل الأمور فيفضل عدم التوسع في أمر البدع حتى لا تشمل كل محدث وتتناول كل الأعمال
– لا بد من نشر العلم بأصول الدين والسنن لنحارب الجهل الذي يسبب البدع.
– لا بأس من تمحيص المسائل الخلافية في البدع وغيرها بالدليل والبرهان في جو من الحب والتآلف وبغية الوصول إلى الحقيقة فمتى ظهر الحق وقام الدليل فلا يجوز مخالفته والخروج عليه.
– لابد من اتّباع أحسن الأساليب والوسائل في إزالة المنكر واتّباع أسلوب الحكمة والبصيرة والجدال الحسن حتى لا تؤدي إزالة المنكر إلى ما هو أشر منه أو إلى منكر أكبر منه مع مراعاة الزمان والمكان والأشخاص واختلاف البيئة وأثر ذلك في التغيير…وإذا كان من واجب المسلمين إنكار البدعة في دين الله ومحاربتها والقضاء عليها، فهم مطالبون عند إنكار البدعة باتخاذ أفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى شر منها. فالذي أمرنا بالإنكار، هو الذي أمرنا بإحسان الوسائل ولا يصح شرعا أن نحارب بدعة بجلب شر أكبر منها.

زر الذهاب إلى الأعلى