اجتماعيةعامقضايامقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

مفهوم الحرية.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

مفهوم الحرية.. من وحي ميثاق جمعية الإحياء والتجديد

كلمة صدح بها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، صدعت أركان بقايا الفكر الجاهلي في استعباد الناس، هذه المقولة فهم عميق لما جاء به الإسلام وثمرة من ثمراته، ويسير على دربه الإمام عليٌّ -كرم الله وجهه- حين خاطب الإنسان: “لا تكن عبدَ غيرِك وقد جعلك الله حرًّا”.
الحرية في المنظور الإسلامي هي هبة ربانية وهي قدر الإنسان الذي تميز به عن كل مخلوق سواه، بل الإسلام أولى اهتماما بحرية الإنسان منذ المرحلة المكية، حيث كان ينتشر الرق والاستعباد للإنسان في العالم بأسره، وجعله من أولويات الدعوة، ولقد رغب الإسلام المسلمين في عتق الأرقاء، بأن جعله قُربة يتقربون بها إلى الله وطريقهم للجنة، قال سبحانه وتعالى في سورة البلد وهي مكية.. “وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة” (البلد: 10ـ13)”، فروى أبو رجاء عن الحسن قال: بلغنا أنه ما من مسلم يعتق رقبة إلا كانت فداء من النار، وعن عبد الله بن عمر قال: من أعتق رقبة أعتق الله – عز وجل – بكل عضو منها عضوا منه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: “من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار، حتى فرجه بفرجه”.
يقول الدكتور علي الصلابي:” ويا له من وصف ونسج أدبي رائع، (فأول عقبة) تعيق الإنسان عن دخول جنات الفردوس الأعلى يكون “اقتحامها” من خلال فك رقبة ((أي تحرير إنسان من العبودية أو الرق.”)).
كما شرع لتحرير الرقيق تشريعا جعله مصرفا دائما من مصارف الصدقات وبيت المال العام “إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” (التوبة 60)، فهي “فريضة واجبة” فرضها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم، كما كانت إعانته “للغارمين” على سداد ديونهم، وكذلك تكافله الاجتماعي السياج الوقائي الحامي لعامة الناس من الوقوع في هاوية الاسترقاق.
“والذين ينظرون في آيات القرآن الكريم لابد أن يستلفت بصيرتهم أن المصطلح القرآني الذي تناول الرقيق هو مصطلح “الرقبة”، وليس “العبد”، وأن هذا المصطلح مقترن دائما في القرآن بالتحرير (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ إِلَّا أَن يَصَّدَّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) (النساء 92)

ولكن لم يجعل الإسلام موضوع الحرية مجرد طرح فلسفي بارد، بل جعله مهمة أساسية من مهام الدين، حينما جعل جوهر الحرية هو نقل الناس من العبودية إلى الحرية، أي: نقل الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، لقد حرَّر فكرهم ابتداء بأنهم خلقوا أحرارا من أصل واحد، وهذه رسالة الإسلام التي بلغها الصحابي الجليل ربعي بن عامر رضي الله عنه إلى ملك الفرس، حين قال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام).

وبعد أربعة عشر قرنا من هذا الإعلان الرباني، تأتي وثيقة حقوق الإنسان أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليعلن:
( المادة 1- ولدت كل الكائنات البشرية أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا العقل والضمير ويجب أن يتصرفوا نحو بعضهم البعض بروح من الأخوة.
المادة 18- لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين، ويشمل هذا الحق تغيير دينه أو عقيدته، والحرية إما بمفرده أو باشتراك مع آخرين، وعلنا أو بمعزل، وأن يظهر دينه أو عقيدته في التدريس والممارسة والعبادة وأداء الشعائر.
المادة 19- لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق الحرية في اعتناق الآراء بدون تدخل، وأن يطلب ويتلقى معلومات وأفكارا عن طريق أي وسائط بغض النظر عن الحدود.

ولكن الفرق بين بنود الوثيقة ومفهوم الإسلام، فإن الحرية الإنسانية في عرف الإسلام واحدة من أهم “الضرورات”، وليس فقط “الحقوق” اللازمة لتحقيق إنسانية الإنسان، فالإسلام يرى في “الحرية” الشيء الذي يحقق معنى “الحياة” للإنسان، فيها حياته الحقيقية، وبفقدها يموت، حتى لو عاش يأكل ويشرب ويسعى في الأرض كما هو حال الدواب والأنعام.
وفي كتاب “الإسلام وحقوق الإنسان: ضرورات لا حقوق” يحاول المفكر الإسلامي الكبير الراحل محمد عمارة إيضاح موقف الشريعة الإسلامية من حقوق الإنسان، وقد وهب الدكتور عمارة حياته كلها للدفاع عن الإسلام ورد الشبهات ودحضها.
يؤكد الكاتب: “أن “حقوق” الإنسان التي يُطالبون بها هي في الإسلام “ضرورات” لا غني عنها للفرد المسلم أو غير المسلم، وقد بلغ الإسلام في الإيمان بالإنسان، وفي تقديس “حقوقه” إلى الحد الذي تجاوز بها مرتبة “الحقوق” عندما عدَّها “ضرورات” ومن ثم أدخلها في إطار “الواجبات””.

وإذا نظرنا وجدنا أن هذا الفكر الوسطي المعتدل هو الذي انتهجته جمعية الإحياء والتجديد وضمنته في ميثاقها عندما تطرق للحديث عن الحرية لم يخرج عن السياق للفهم الإسلامي للحرية، إذ جاء في ميثاق الإحياء والتجديد في محور المبادئ والمنطلقات الفقرة (6):
“إن كلمة التوحيد هي كلمة الحق والحرية، تصدح بها مآذن المسلمين خمس مرات في اليوم والليلة، لتعلن للناس أن الله هو الرب والملك له وحده السيادة والسلطان، “قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَٰهِ النَّاسِ (3)، (الناس (1- 2- 3).
لقد كسرت كلمة التوحيد قيود العبودية وأغلال الرق، وارتفعت بالإنسان عن أثقال الأرض، وعلت به على طغيان الجبابرة والمستبدين؛ فحررته من الاستعباد الفكري، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وأعادت للإنسانية كرامتها المهدرة، بتحرير إرادتها من مظاهر الإكراه والعبودية.
ولعظم هذا المبدأ جعل الإسلام الحرية والتّحرير؛ هما الفداء المقابل لقتل النّفس المعصومة، وذلك بإدخال نفس في جملة الأحرار، مقابل إخراج نفس من جملة الإحياء؛ فجعل الرق بمثابة الموت، وجعل الحرية إحياء وحياة. (وَمَن قتل مُؤمنًا خطــأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) (النساء 92) .
إن الحرية هبة الخالق جعلها سبباً للحياة الحقيقية للأفراد والأمم، وسنّة باقية لنهضة المجتمعات، واستمرار الحضارات، ولا أدل على تفكك المجتمعات وانهيارها، وزوال الحضارات وأفولها، من التظالم والبغي والعدوان. قال رسول لله صلى لله عليه وسلم: “إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودّع منهم” (رواه الحاكم في المستدرك).
لقد أثمر مبدأ الحرّية في الإسلام حضارة زاهرة، بسقت فيها العلوم وتحاورت، وعاشت في كنفها الأديان وتجاورت، آوى إليها المضطهدون من أرجاء الدّنيا كلها، فكانت في أرض الإسلام كنائس، ومعابد، مازالت شاهدة على عظمة هذا المبدأ القرآني وكماله. قال تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَنَّ الرُّشْدُ مِنَ الْغيَ..) (لبقرة 256).
إن الحريّة التي نتمسك بها، وندعو أبناء الوطن إليها، هي حرية الحقوق المشروعة، التي يكفلها الدين، ويضمنها الدستور في إعلان الرأي، والتّفكير الحرّ المبدع، والنّقد الصّريح، والتّعاون على المعروف، والدّعوة إلى الإصلاح والعمران، والحفاظ على الهّويّة، وصون الثّوابت الوطنيّة.”

نلاحظ أن هذا المفهوم للحرية لميثاق الجمعية جمع التأصيل الشرعي ويعدون الحرية فريضةً من فرائضه، وتبيان معنى الحرية وآثارها وثمارها، ودعوة وطنية لتمسك بها.
ولكن ما نريد تأكيده ولكي يكون المفهوم واضحاً لابد من التذكير أن حرية الإنسان لا تعنى الانسلاخ من التعاليم الدينية، بل المحافظة عليها وممارسة الحرية في إطارها، ويرفع بالإنسان أن تستهويه نفسه ممارسة حريته الشخصية بمخالفة تعاليم الإسلام بإحياء الوازع الديني المتمثل في مراقبة الله له على أعماله والمحاسبة عليها فى الآخرة، والإنسان ليس حرا في إلحاق الضرر بالنفس أو بالغير، فليست الحرية مطلقة، بل مقيدة بضوابط، فإن هناك فرقا كبيرا بين ممارسة الحرية دون قيد، وهذا ما يعرف بالحرية المطلقة، وهى مرفوضة من الجميع، لأنها تدفع إلى الفوضى، أما الحرية في فكر جمعية الإحياء والتجديد فهي منضبطة لا تعني الخروج عن القانون، بل تدور في فلكه ولا تخرج عنه ،ويكون المواطنون سواء أمام القانون وتتمثل في:

▪ أن تراعي الحرية تعاليم الدين وما تعارف عليه المجتمع.
▪ أن تراعي حقوق المواطنة السياسية والاجتماعية والثقافية بمفاهيمها ومدلولاتها ومصطلحاتها المتعارف عليها.
▪ ألا تؤدي حرية الفرد أو الجماعة إلى تهديد سلامة الدولة وتقويض أركانها.
▪ ألا تؤدي حريته إلى الإضرار بحرية الآخرين.

ونود أن نوضح أن من حق أي إنسان أن يدافع عن حريته واستخدام الوسائل المتاحة له في الدفاع عن حريته ضد من يحاول سلبها منه، فكذلك الدول، فإن حق الدفاع عن الوطن واجب على أبناء البلد التي يحاول الاحتلال اغتصابها والاعتداء على حرية الشعب، ولذا شرع الإسلام الجهاد بالنفس والمال إذا داهم العدو البلاد، وما مناصرتنا للقضية الفلسطينية (والقضايا الإنسانية العادلة) إلا من هذا المفهوم.

فلابد أن تتكاثف الجهود بين مؤسسات المجتمع المدني على توعية شعبنا ابتداء على قيم الحرية ومبادئها، وأن ضمانات استمرارها تكون قابعة في القلوب والصدور وراسخة في العقول، ولا بد ثانيا من أن نحسن صياغة الدستور الذي يحكم الأمة، ليحدد المسؤوليات، ويحدد السلطات، ويزيل الشبه والاحتمالات، بحيث يعرف كل امرئ أو جماعة أو حزب حدوده المشروعة فيقف عنده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى