اجتماعيةمقالات تربوية

مفهوم العبادة في المنهج التربوي الإسلامي 

أ. فرحات الهوني

إن أهم ما يُميَّز به الإنسان عن سائر المخلوقات أنه خُلق لعبادة الله سبحانه وتعالى طوعاً وفق ما شرع به رب العزة ورسُوله -محمد صلى لله عليه وسلم- تحديداً وتوقيتاً، وهذا ما أمر به المسلمين وحثهم على الالتزام به وعليه يكون الجزاء.

ومفهوم العبادة صريح وواضح، وإن اختلفت صياغة تعريفه وأشكل على البعض مفهومه وذهب البعض في شطحاته ومن هنا بدأ سوء فهم العبادات وبدأت زوايا الانحراف في المفهوم الذي بمقتضاه تكون العبادة صحيحة حتى أصبح لا يفرق من الخلط بين العبادات والعادات أو العبادة والبدعة وقد ذهب فيه قوم انحصارا وتضييقاً وآخرون توسعاً وتضييعاً.
يقول الشيخ أيمن الشعبان في مقاله التعريف بالعبادة: “العبادة في اللّغة: الخضوع، والتّذلّل للغير لقصد تعظيمه ولا يجوز فعل ذلك إلاّ للّه، وتستعمل بمعنى الطّاعة.
وفي الاصطلاح: ذكروا لها عدّة تعريفات متقاربة: منها:
1- هي أعلى مراتب الخضوع للّه، والتّذلّل له.
2 – هي المكلّف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربّه.
3- هي فعل لا يراد به إلاّ تعظيم اللّه بأمره.
4- هي اسم لما يحبّه اللّه ويرضاه من الأقوال، والأفعال، والأعمال الظّاهرة والباطنة.
إن مفهوم العبادة في الإسلام أعم وأشمل مما يعتقده كثير من الناس، من مجرد الصلاة والزكاة والصيام والحج فقط، ولكن العبادة التي خلقنا الله من أجلها هي تعظيم الله عز وجل والخضوع والتذلل له وإفراده بالطاعة المطلقة، فإذا جاء أمره سبحانه يجب أن يسقط من حسابنا كل أمر عدا أمره عز وجل”.
وهذا التعريف هو ما أكده شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال: “العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة: فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والإحسان إلى الجار واليتيم والمسكين والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه وإخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضاء بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف من عذابه وأمثال ذلك هي من العبادات لله. يقول الدكتور عبد الله الوشلي في كتابه النهج المبين: “يقول الله تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) يخطئ كثير من المسلمين في فهم حقيقة العبادة في الإسلام فيظن كثير من الناس أن عبادة الله مقتصرة على الصلاة والصيام والزكاة والحج وبعض الأذكار ويعتقدون أنهم بعملهم ذلك أقاموا الإسلام في حياتهم وهذا فهم ناقص لحقيقة العبادة في الإسلام”
وجاء في مفهوم العبادة في الفكر الإسلامي المعتدل منتهجاً نهج سلف الأمة: “والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد”. ويقصد بالعاديات: العادة، أو المألوف، أو المعهود.
يقول الدكتور عبد الكريم زيدان شارحاً لهذا المفهوم في شرحه الأصول: “والأصل في العبادات: التعبد، أي القاعدة الجامعة في العبادات أن تقوم بها طاعة لله ولمحض العبودية دون توقف على فقه أسرارها وحكمها ومعانيها وإن كنا نؤمن بأن لها معاني وحكمة وأسرارًا، أما في غير العبادات أي في العادات أي فيما عدا العبادات كأمور الشرب والأكل واللبس والمعاملات فإن المسلم يلتفت إلى ما فيها من أسرار وينظر إلى مقاصد الشرع الإسلامي وحكمة التشريع والمقاصد العامة له، وما عرف من مسلك الشريعة ومناهجها يمكن أن نعرف حكم العاديات التي لم يرد نص صريح بشأنها”
ويضيف أيضاً الدكتور عبدالله قاسم الوشلي في كتابه النهج المبين: وقوله: (الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد).

المشروعات قسمان:

ـ  أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة ـ أو جالب لمفسـدة دارئ للمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى.
ـ  القسم الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبـر عنـه بالتعبد أي غير معقول المعنى ـ وفي التعبد من الطواعية والإذعان مما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته مما ليس في غيره، فما ظهرت علته وفهمت حكمته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيله حكمته وفائدته، والمتعبد لا يفعل ما تعبـد بـه إلا إجلالاً للرب، وانقياداً لطاعته، ويجوز أن تتجرد العبادات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب ودرء مفسدة غير مفسدة العصيان، فيحصل من هذا أن الثواب قـد يكون على مجرد الطواعية من غير أن تحصل من تلك الطواعية جلب مصلحة أو درء مفسدة سوى مصلحة أجر الطاعة ويدل علـى هـذه الحقيقـة الأصولية أمور منها:

الاستقراء: حيث إن أكثر العبادات المأمور بها ـ المكلف بها ـ غير معقولـة المعنى، وذلك مثل الصلوات خصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة إن خرجت عنها لم تكن عبادات، وهكذا نجد في سائر الفروض والواجبات التعبدية مثل الصوم والحج وغيرها، ومن خلال ذلك الاستقراء فهم أن من حكمـة التعبـد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه.

أما العاديات: فنجد أن الشارع قاصد فيها مصلحة العباد، والأحكام تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم إلى أجل يمتنع في المبايعة، ويجوز فـي القـرض وبيـع الرطب باليابس، فيمتنع حيث يكون مجرد غرض من غير مصلحة، ويجوز حيث يوجد مصلحة راجحة كما في المرايا، ولم نجد هذا في باب العبادات مفهوماً كمـا فهمناه في العادات.

 

والعبادة باعتبار نفعها قسمان:
الأول: أن يكون نفعها ذاتيا كالصلاة وقراءة القرآن والأذكار وغيرها.
الثاني: أن يكون نفعها متعديا كالزكاة لأن الغني يخرج جزء من ماله ويعطيه للفقير.

والعبادة المتعدية باعتبار نفعها وأثرها تكون أفضل وأكثر أجرا من الذاتية، وكلنا نعلم فضائل الصيام وقيام الليل وفضل قراءة القرآن، لكن اسمعوا لفضل كافل الأرملة والمسكين، يقول عليه الصلاة والسلام (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله) وفي الحديث الآخر عن النبي عليه الصلاة والسلام قال (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وأشار بأصبعه السبابة والوسطى)

شروط قبول العبادة:

ـ الشرط الأول ـ الإخلاص: وهذا الشرطُ متعلِّقٌ بالإرادةِ والقصدِ والنيّة، والمقصود به إفرادُ الحقِّ سبحانه وتعالى بالقصد والطاعة.
ـ الشرط الثاني -الموافقة للشرع: وأما الأدلة من القرآن فكثيرة منها: قوله تعالى: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أما الأدلة بين السنة النبوية فكثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: «تركتُ فيكم أمرينِ لن تضلّوا ما تمسّكتُم بهما، كتابَ الله وسنّةَ رسولهِ». وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أحدثَ في أمرِنا هذا ما ليسَ مِنْهُ فهو رَدٌّ”. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لقد تركتُكم على مِثْلِ البيضاءِ، ليلِها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلاّ هالكٌ”

فحقيقة العبادة هي كمال الذل مع كمال المحبة لله عز وجل، ونهاية الخضوع والانقياد والاستسلام والتواضع والخوف والخشية والإنابة والرجاء والإذعان للعزيز المنان، كما أن (حقيقة العبادة انقياد النفس الأمارة لأحكام الله تعالى وصورته وقالبه الإسلام ومعناه وروحه الإيمان ونوره الإحسان).
ولما طغت الماديات في زماننا انقلبت الموازين واختلفت المفاهيم، حتى ساد بين كثير من المسلمين بأن العبادة هي الشعائر الدينية والفرائض الوقتية، حتى غرقت الأمة بالذل والهوان والضعف والتقهقر، ولا يمكن أن تعود لمجدها وعزتها وقوتها حتى يستقر المفهوم الصحيح “للعبادة” ويطبق بشكل دقيق، لأن العمل والتطبيق بعد العلم والفهم.

إذا فمفهوم العبادة شامل ومعناها واسع، ولا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة إذا صحت النية وأحبها الله وارتضاها فهي عبادة، فحركاتك وسكناتك وتعاملاتك إذا أحسنت النية فيها فهي عبادة، وكذلك أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر، وطلبك للعلم سواء للعلوم التطبيقية والإنسانية، وأداء الوظيفة بجودة وحرص، وتعليم الناس ما ينفعهم  بل تبسمك في وجه أخيك، وإماطة الأذى عن الطريق، والحياء عبادة، وصلة الأرحام وبر الوالدين، وحسن العشرة والأخوة في الله، والصدق في الحديث والتسامح مع الآخرين والصفح عنهم، وحسن الخلق وتجنب مواطن الشبهة والريبة، إلى غير ذلك من التعاملات والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية.

يقول ربنا جل وعلا (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين. لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين)، فلو عاش الإنسان ومات لله ومع الله وفي سبيل الله بكل أحواله ومراحله وجوانبه، فإنه سيحقق معنى العبودية لله وحده لا شريك له، وتنقص تلك المرتبة بقدر تعلق قلب الإنسان بغير الله عز وجل حتى ينعكس على مجريات حياته.
وإذا كانت العبادة غاية الوجود الإنساني، كما هي غاية كل وجود، فإن مفهومها لا يقتصر على المعنى الخاص الذي يرد إلى الذهن، والذي يضيق نطاقها، حتى يجعلها محصورة بأنواع الشعائر الخاصة التي يؤديها المؤمن، وإنما أيضاً والأكمل تفهم العبادة بالمعنى العام . . فإنها تعني السير في الحياة ابتغاء رضوان الله، وفق شريعة الله. فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى، والقيام بأداء حق الناس استجابة لطلب الله تعالى بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها، يعد عبادة, وهكذا تتحول أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضاء الله.
فالعبادة ما تكاد تستقر حقيقتها في قلب المسلم، حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وحركة وبناء.
عبادة تستغرق نشاط المسلم.. بخواطر نفسه، وخلجات قلبه، وأشواق روحه، وميول فطرته، وحركات جسمه، ولفتات جوارحه، وسلوكه مع الناس..
وبهذا الاستغراق، وهذا الشمول يتحقق معنى الخلافة في الأرض في قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)
لأن الخلافة في الأرض هي عمل هذا الكائن الإنساني .. وهي تقتضي ألواناً من النشاط الحيوي في عمارة الأرض والتعرف إلى قواها وطاقاتها وذخائرها ومكنوناتها، وتحقيق إرادة الله في استخدامها وتنميقها، وترقية الحياة فيها.. كما تقتضي الخلافة القيام على شريعة الله في الأرض، لتحقيق المنهج الإلهي الذي يتناسق مع الناموس الكوني العام..
ومن ثم يتجلى أن معنى العبادة التي هي غاية الوجود الإنساني، أو التي هي وظيفة الإنسان الأولى.. أوسع وأشمل من مجرد الشعائر, وأن وظيفة الخلافة داخلة في مدلول العبادة قطعاً..

بهذا المفهوم الشامل المتكامل ينبغي أن نفهم حقيقة العبادة، وأن كل شيء في الحياة مع إخلاص النية وابتغاء مرضاة الله يكون عبادة، فكل مسلم في اختصاصه يستطيع تحقيق ذلك، فالاقتصادي عندما يتحرى الحلال والحرام ويؤصل لذلك ويربط هذا الجانب بالشريعة يكون ذلك له عبادة، وهكذا التاجر الذي يتحرى مصارف الزكاة ومستحقيها بشكل دقيق ويتعامل مع الناس بصدق وبر، والإعلامي المنافح الذي ينصر قضايا المسلمين فله دور كبير في ذلك، والطبيب والمهندس والأستاذ والداعية والكاتب والأديب والشاعر .. إلخ، كما يقول معاذ بن جبل رضي الله عنه (إني لأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي)
وكم نحن بحاجة لترسيخ هذه المفاهيم، وتحقيق العبادة على الوجه الصحيح؛ في زمن اضطرب فيه العلم، واختلفت المفاهيم وطغت الماديات، وكثر الهرج وساد الجهل، وضعفت الهمم وقلت الإرادة، وظهر الفساد في البر والبحر، وعم الظلم والفجور، وزلت أقدام وضلت أفهام، وكثر الاختلاف والتناحر، وعمت البلوى والتلون والتفاخر، إذ يقول حبيبنا عليه الصلاة والسلام (عبادة في الهرج والفتنة كهجرة إلي).

والخلاصة يجب أن يكون مفهوم العبادة شامل فلا يقتصر على بعض الطاعات والأفعال والفرائض، فالعبادة كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة فإذا تقررت تلك المفاهيم فاعلم أن العادات إذا وجد فيها التعبد فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص، من الأمور التي لا محل للقـول فـي فـهـم مصالحها الجزئية حتى يقاس عليها غيرها، وذلك ترجيحا للجانب التعبدي ولأن أمور العبادات فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان.

Related Articles

Back to top button