مقابلة قرآنية تربي النفوس وتوقظ الغافلين

أ. محمد العوامي
“تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا….. فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ”
في مشهدٍ عظيم من مشاهد السيرة النبوية، وتحديدًا في غزوة أُحد، يصف القرآن لحظةً زلَّت فيها أقدام بعض الصحابة رضي الله عنهم حين انشغلوا بالغنائم، فعاتبهم الله بلغة رقيقة لكنها حازمة، تحمل بين كلماتها درسًا خالدًا لكل مؤمن:
﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ﴾
[النساء: 94]
مقابلة بديعة بين مقصد ناقص ومغنم أعظم. إنها “تربية قرآنية” تتجاوز الحادثة، لتغرس في القلوب ميزانًا جديدًا ينظر إلى المكاسب بمنظار الآخرة لا بمنظار الربح الزائل.
“عرض الدنيا”… زائل:
الآية الكريمة تبدأ بلوم رقيق:
﴿تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾
كلمة “عرض” في اللغة تدل على الشيء القليل والمؤقت.
قال الراغب الأصفهاني:
“العَرَض: ما لا يثبت ويزول.”
فكل مكسب مادي سريع، كل شهوة، كل ربح زائل… هو عرض.
والمشكلة ليست في أن الدنيا موجودة، بل في أن تصبح غاية تُطلب على حساب الطاعة.
ثم جاءت المقابلة القرآنية المبهرة:
﴿فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ﴾
• أداة “الفاء” تفيد التعليل: لماذا تسعون إلى الزائل؟
• “عند الله” تعني الثبات والدوام
• “مغانم” بصيغة الجمع، وتوحي بالشمول والتنوع
🔹 تشمل:
• نصرًا بعد الصبر
• رضا وسكينة
• حسن الخاتمة
• ثواب الآخرة
• الجنة وما فيها
● من درس أُحد: كشف المعادن:
القرآن ذكر أيضًا في سياق أُحد:
﴿منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة﴾
[آل عمران: 152]
قال ابن مسعود رضي الله عنه:
“ما كنت أحسب أن أحدًا من أصحاب رسول الله ﷺ يريد الدنيا حتى كان يوم أُحد.”
رواه الطبري وابن أبي حاتم وابن كثير.
ليس لأنهم ضعفاء الإيمان، بل لأن النفوس تُفتن.
والتربية القرآنية جاءت لتصحح البوصلة وتطهر القلوب.
● التربية بالمواقف:
يعلق سيد قطب على هذه الآيات قائلًا:
“كان الذي حدث في أُحد ابتلاءً عظيمًا، كشف عن معادن النفوس… ليتهيأ الصف المؤمن للمعركة الكبرى مع الجاهلية.”
ويضيف:
“التجربة تكشف عن الضعف ليُعالج، وعن النقص ليُستدرك، وعن الحرص على الدنيا ليُطهّر منه القلب.”
إنها تربية عملية لا نظرية، يتربى فيها القلب على الصبر، والرضا، وتقديم الآخرة.
💡 تأمل هذه القاعدة:
﴿فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ ۚ﴾
تثمر في النفس آثارًا تربوية عظيمة:
🔹 تصحيح الميزان القلبي: ترك المقارنة السطحية، وبناء الميزان الأخروي.
🔹 بناء الرضا والتسليم: حين يثق القلب أن ما عند الله أعظم، يرضى بما قسم الله.
🔹 تحفيز النفس على الطاعة والثبات: المكافأة الحقيقية ليست آنية، بل ربانية.
🔹 تنمية البصيرة الإيماني: رؤية ما وراء الأحداث، وتصديق أن الخير في اختيار الله.
● قاعدة حياة:
💡 من يطلب العاجل… فاته الأجل.
ومن صبر على الطاعة… نال مغانم الله الكثيرة.
لا تبيع طاعتك لله بعرضٍ من الدنيا!
فما عند الله أعظم، وأبقى، وأشرف.
🤲 نسأل الله أن يعلّق قلوبنا بما عنده، وأن يجعلنا ممن يريدون الآخرة، ويصبرون على الطريق إليها.