مقاصد الشريعة في توجيه الفكر الإسلامي
بقلم : د. أبوبكر العيش
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
إن الحاجة الواقعية اليوم ومقتضيات الحراك المعرفي والتلاقُح الحضاري الحاصل بين أطياف الفكر الإنساني بشكل عام يُحتِّم التّوجه إلى مُرتكزات إعمال مقاصد الشريعة في الواقع الإنساني عبر ما يُسمى اليوم بـ (الفكر الإسلامي) .
يقول الدكتور أحمد الريسوني (الفكر المقاصدي ص 98 وما بعدها): «وإذا كان الفكر الإسلامي القديم متمثلاً في علم الكلام وما تولّد عنه من تشعبات وتأثيرات قد غفل عن المقاصد مضموناً ومنهجاً ، فإن الفكر الإسلامي الحديث مدعو حالاً واستقبالاً للاستفادة من المقاصد ومن المنهج المقاصدي ، خاصة مع تزايد المؤلفات والدراسات التي تُمهّد هذا الطريق وتساعد على سلوكه».
وقد فصّل الدكتور الريسوني عدة فوائد يستفيدها الفكر والمفكرون من منهج المقاصد ، والتي يُمكن اعتبارها مُرتكزات يرتكز عليها إعمال المقاصد الشرعية في الفكر الإسلامي عموماً ، أذكر منها على سبيل الإجمال:
1- النظر التقصيدي : بمعنى أن يكون الفكر الإسلامي فكراً قاصداً ، يسير في اتجاه ما أُدرِك من مقصودات الشرع أو مقاصده في عقائده وشرائعه ، ولابد أن يُحدِّد قضاياه وأهدافه بما تقتضيه ، وبما يتلائم معها ويخدمها ، ابتداء من تفسير النصوص الشرعية وتأويلها ، مروراً باستنباط الأحكام وطرح الأفكار والآراء ، وانتهاء بالتطبيق وصناعة الواقع .
2- النظر الشمولي : فإعمال المقاصد الشرعية يُحتِّم على الفكر الإسلامي النظر الشمولي المتناسق المتكامل ، ينطلق منه في قضاياه واختياراته واجتهاداته ، فيتخلص من ضيق الرؤية الجزئية والمعالجات الموضوعية ليكون في سعة النظرة الشمولية التي تُسدِّده إلى الاختيار الأمثل والاجتهاد الأصوب.
3- النظر الترتيبي : وهو النظر الذي يقود الفكر الإسلامي إلى معرفة أولوياته وترتيبها بحسب ما تقتضيه المقاصد الشرعية ، فيتحدّد بذلك مدى جدوى القضايا التي يُركِّز عليها ، فيمضي فيما له الأولوية ويؤخّر أو يُلغي ما حقُّه التأخير أو الإلغاء ، كل ذلك يكتسبه من ركيزة العقلية المقاصدية الترتيبية التي تصنعها المقاصد ، والتي تَعتبِر الأولوية للمصالح والمفاسد ولكافة الشؤون .
4- النظر التركيبي : وكما أن إعمال المقاصد يُحتّم على الفكر الإسلامي أن يكون فكراً ترتيبيًا، فهو يُنشيء عقلية استقرائية وفكراً تركيبياً ، يستقرئ الجزئيات ويربط بينها ويُركّب بعضها مع بعض ؛ ليصل إلى الكليات ، ثم يُحكّم هذه الكليات في تلك الجزئيات ، فالمقاصد تجمع بين العلم بالجزئيات ، والعلم بالكليات ، والعلم بالربط والتنسيق والتركيب ؛ للوصول في النهاية إلى الأحكام والحقائق ، وهذه كلها أرقى صور العمل العلمي والعقل العلمي .
5- النظر التوازني : وهو المُرتكز الذي يتّجه إليه الفكر الإسلامي إذا ما انطبع بالمنهج المقاصدي في التمييز بين الوسائل والمقاصد ، فيتعامل مع الأولى بالليونة والمرونة ، ويتعامل مع الثانية بالتثبيت والتشديد ، حيث يُشكِّلُ هذا التمييز أفضلَ ضمان للتوازن بين الثوابت والمتغيرات ، بين المرونة والصلابة ، أو بين الليونة والصرامة ، فإعمال المقاصد يسمح بالمرونة والتغيُّر والتكيُّف في الوسائل والأحكام التوسلية المفضية إليها ، بما لا يُخل بالمقصود ، بل يُحقّقُه ويحافظ عليه .
ومن خلال هذه المُرتكزات -وغيرها مما لم يُذكر- يتبين أن «المقاصد بأُسسها ومَراميها، وبكُلِّياتها مع جزئياتها ، وبأقسامها ومراتبها ، وبمسالكها ووسائلها ، تُشكِّل منهجاً متميزاً للفكر والنظر ، والتحليل والتقويم ، والاستنتاج والتركيب»، وهي بذلك تُسهم في صناعة فكر إسلامي مُتّزن مُثمِر ، يرتبط بالأصل ، ويُساير المنهج ، ويُواكب العصر ، ويؤَثِّر إيجاباً في واقع الحياة.
- اقتباس مختصر من كتاب شيخنا الريسوني (حفظه الله)