عامقضايامقالاتمقالات الرأي

من سربرينيتسا الى غزة سقوط المجتمع الدولي

شيروان الشميراني

عندما ظهرت مشاهد مجزرة المواصي في خان يونس كنت أقرأ للمرة الثانية عن مجزرة ” سربرينيتسا” في البوسنة والهرسك، ولما نظرت الى تاريخ وقوعها تفاجأت بأنه هو الأيام التي تمر علينا الان، (14-15-16) واليوم التالي الدفن في المقابر الجماعية من شهر تموز-يوليو 1995، لكن التدقيق وقراءة التفاصيل يتجاوز مسألة التوافق التاريخي الى الجانب الآخر، أو الجوانب الأخرى كلها، فهذه الأيام ونحن نعيش المجازر في غزة، هو ذكرى مذبحة سربرينيتسا التي وقعت أمام مرأى المجتمع الدولي الحرّ كما يحلو للغربيين تسميته في أوروبا النور، ولم يقع في التاريخ كله من ظلم وإراقة للدماء المظلومة كما وقع في ظلّ العالم الحرّ هذا، فأي حرية يصفون بها العالم الحديث؟
إن تحديد بعض ملامح الظروف التي أحاطت بسربرينيتسا في نطاق الحرب التي فُرِضَت على الشعب البوسني، يقرب لنا الظروف التي تفتك بالشعب الفلسطيني في غزّة، ويسهل على الفهم والتصور بأن القضية ليست في تهور كتائب القسام، وإنما في الطرف الآخر الذي يعمل على إذلال الشعوب الأخرى، وأن لا طريق سوى المواجهة :-
• كانت سربرينيتسا دخلت بقرار من مجلس الامن الدولي رقم 824 في أبريل 1993 كمنطقة آمنة وتحت الفصل السابع، أي صلاحية إستعمال القوة ضد المعتدي.
• أفرغت المدينة الصغيرة من السلاح، أي تجريد الجيش البوسني من الأسلحة الثقيلة وحصر الخفيفة منها.
• وضعت تحت مراقبة القوات الدولية التابعة للأمم المتحدة.
• لكن المدينة كانت محاصرة من جميع الجهات من قبل القوات الصربية المدججة بكامل الذخيرة اليوغسلافية من أسلحة ثقيلة وخفيفة, وبدأت قلة المواد الغذائية التي تدخلها نتيجة الحصار المفروض لسنتين تظهر آثارها من الجوع والتسبب بالأمراض وحالات الوفاة، يقول الرئيس القائد علي عزت بيغوفيتش طلبنا من القوات الدولية والغربيين إنزال المعونات من الجو.
• وكان حضر السلاح مفروضاً على منطقة الحرب كلها، إلا أن ذلك لم يكن ذات تاثير على الصرب لأنهم كانوا مزودين مسبقاً وكانت الأسلحة تأتيهم من بلغراد كذلك. والمجتمع الدولي يغض الطرف عنه، لكن ما أن يطلب البوسنويون رفع حظر السلاح من أجل الدفاع عن المدنيين والنفس، كانت الأمم المتحدة تهدد بالانسحاب وترك المجال مفتوحاً امام القوات الصربية الغازية لتدمير كل شيء. وهو تهديد مخيف في ظل تكالب الجميع على شعب صغير يتعرض للإبادة العرقية داخل أوروبا.

تحت هذا الظرف القاسي المؤلم الذي يجعل حتى الحجر محبطاً ويائساً من كل ناصر، كان قرار المواجهة والدفاع هو المرجح لدى القيادة البوسنية والعمل على الجبهات كلها، ومن تلك الجبهات الجبهة السياسية والدخول في تفاوض من أجل وقف الحرب، وكسب السلام، لكن كان الغرب يريد من شعب البوسنة الاستسلام وليس وقف الحرب، مرحلتان من المفاوضات وافقت على مخرجاتها القيادة البوسنية لكن ميلادوفيتش رفضها، والمجتمع الدولي لم يكن يضغط عليه لقبول ما يوقف الحرب، وإنما كان يسمح له بإرتكاب المجازر من أجل فرض سلام ظالم على البوسنيين، يصور الرئيس بيغوفيتش في كتابه – سيرة ذاتية وأسئلة لا مفرّ منها- ذلك ” أصدر ممثلوا المجتمع الدولي تصريحات بثت الصدمة والتشويش لدينا فيما يتعلق بالهجوم الصربي والحرب في البوسنة والهرسك عموماً، ولقد بدا الامر من هذه الزاوية أن هناك قبولاً لقيام الصرب والكروات بعملياتهم ضد البوسنيين، بل قد يكون هناك تشجيع على ذلك كي يتم إجبارنا على تقديم تنازلات”. اللورد البريطاني ديفيد أوين الذي كان يعمل مفاوض السلام في البوسنة عمل على اجبار القيادة البوسنية لِقَبول تقسيم البلاد وحتى سراييفو ذاتها وترك الأرض البوسنية الخالصة لصالح الصرب، أو لا مهرب من الإبادة الجماعية، لم يكن يخفي ذلك، كان يصرح بها.
ومع وجود قرار مجلس الأمن تحت الفصل السابع، لكن القوات الأممية تغلق عينيها أمام تجاوزات الطرفين الصربي سابقاً والإسرائيلي راهناً، ووقعت مذبحة خان يونس كما هي مذبحة سربرينيتسا، كانت القوات الصربية تهين جنود الأوروبيين ضمن فريق الأمم المتحدة كما تفعل القوت الإسرائيلية مع المنظمات التابعة للأمم المتحدة بتشجيع من الولايات المتحدة، والغاية هي إذلال الطرف المقابل لهم في الدين والعرق، وإزدراء المواثيق الدولية التي تفرض السلام العادل وليس الإستسلام تحت لافتة السلام، بل حتى سلام الشجعان لياسر عرفات كما كان يسميه غير مقبول ولم ينجد الحق الفلسطيني.
وقعت المذبحة بعد تأكد ملاديتش من الإفلات كما يفعل نتنياهو، وهاجمت القوات الصربية الشعب الأعزل داخل سربرينيتسا، داست على الأرض الطاهرة جنازير دباباتها الملطخة بالدماء، كل ذلك والمدينة آمنة تحت الحماية الدولية بقرار من مجلس الامن الدولي، لكن القوات ومجلس الامن كانوا يتفرجون كأنهم جالسين يتابعون مسلسل الدراما في شانزليزيه.
في غضون ثلاثة أيام كان جَزْرُ 7079 شخصاً مجردين من وسائل الدفاع وجرح الآلآف. وفي اليوم الرابع الدفن في مقابر جماعية، أسوة بستالين وهتلر، وهي الجثث التي نشاهدها ملقاة فيما كانت تسمى سابقاً شوارع غزة حيث تحولت الى حطام بفعل السلاح الأمريكي الغربي لحماية المعتدي من الانهزام ولإجبار المظلوم على الاستسلام، هي قصة الظالم مع المظلوم عبر التاريخ، التخلي عن القيم والمباديء الأخلاقية والبحث عن المصلحة المجردة عن كل معاني الإنسانية.
هنا يبدو السقوط الأخلاقي للمجتمع الدولي، هنا في سربرنيتسا لم تكن هجمات 7 أكتوبر ولا رهائن إسرائيليين، ولم تكن البوسنة هي البادئة بالحرب على الصرب والكروات، لكن المشاهد هي ذاتها تتكرر، والفرق بين الأسماء والعناوين فقط. والسقوط لها معاني مادية ومعنوية، المقصود هنا هو السقوط المعنوي، فهؤلاء ساقطون أخلاقياً لكنهم ناجحون مادياً في الجانب البادي للعيان.
أليست هي ذات المشاهد تتكرر؟، حصار وضرب وتجويع وذبح وتجريب للأسلحة الجديدة على الشعب الفلسطيني وكل الشعوب المظلومة في العالم، كأنهم فئران في المختبرات العسكرية.
يقول علي عزت بيغوفيتش جاءني بعد ثلاثة أشهر من الحرب الدموية ممثل الاتحاد الأوروبي” اللورد كارينغتون” وقال لي: لا تعتمد على تدخل الغرب لأن ذلك لن يحدث” ثم سألني ماذا تنوي فعله؟ قلت له ” نقاتل، نظر اليّ وسكت لأنه ظنني مجنوناً” يعلق بيغوفيتش على الحوار بينهما ويقول: إن عدم منطقيتنا تماماً كان شيئاً جيداً، لأننا لو كنا منطقيين لاستسلمنا في نهاية نيسان- أبريل عام 1992 حين كان منطق العالم كله ضدنا.
هذه هي طبيعة الشعوب التي تعاني تحت الظلم والجور، ينبغي أن تكون مجنوناً لا منطقياً في بعض الأحيان حتى يحترمك من لا يحترمون المنطق.

Related Articles

Back to top button