من مشاهد يوم القيامة… خصومٌ لا تعرفهم
أ. فرحات الهوني
لا شك أن كل ابن آدم خطّاء، ويذنب وربما يستدرك من بعد هذا الخطأ أو الذنب توبة ويستغفر الله من الذنوب، ولكن هناك من الأخطاء والذنوب التي يرتكبها الأنسان تمس بعض الناس من غيبة ونميمة واستهزاء ثم تطويه الذاكرة في عالم النسيان ويغفل عنها مع طول المدة وتصغيره واحتقاره لهذا الذنب، وينسى قول الحق سبحانه وتعالى عندما تعرض الأعمال: “يَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا* وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا* وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا” (سورة الكهف)
وفي هذا المشهد الرهيب وأنت تحاسب يوم القيامة يظهر لك خصوم، أنت لا تعرفهم ولم ترهم ويخاصمونك أمام الله، ويأخذون من حسناتك التي أنت في أشد الحاجة إليها، وتوضع في ميزان من أسأت لهم ونسيت ذنبك في النيل منهم.
يقول سبحانه وتعالى: “إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ” (سورة الزمر)
تختصم مع الخصوم الذين لا نلقي لهم بالاً بالدنيا، فكم من شخص شتمه ومضيت، وكم من شخص علقت عليه في ملابس أو شكل أو هيئة، وكم من شخص شتمت أمه أو أباه، وكم من شخص نلت من عرضه، وكم من نميمة أو غيبة لشخص نقلت عن الناس أخباره وحكمت عليه بالتشوية.
كم من إعجاب أو تعليق أو مشاركة لمنشور أو خبر على التواصل الاجتماعي لشخص أو أشخاص تم تشويهم أو قتلهم ظلمًا، وحكمت عليهم بالشيطنة والإجرام وأنت لا تعرفهم…فما عذرك أمام الله؟.
وكم في حواراتك مع الناس، تتحدث في الشأن العام، تحدثت عن شعب أو مدينة أو مؤسسة أو جماعة وأنت لا تعرف عنهم شيئًا وصفتهم بالسوء، والتشويه عبارة عن نقل ما ورد من وسائل الإعلام، ودون أن تكلف نفسك التحري والتبين، ألم يدُر في بالك، أنك ستقف خصمهم فردا فردا، لكل من ذكرت، أمام الله يوم القيامة، بأن شملتهم بغيبتك أو بقذفك أو بشتمك، وأنت لا تعرفهم.
بقصد أو بدون قصد، سمعوك أم لم يسمعوك، فإن الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات سمعك، وأصبحوا هؤلاء جميعًا خصومك يوم القيامة، وأنت لا تعرفهم.
يقول المولى عز وجل: “يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا * أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ * وَاللَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (سورة المجادلة).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلىَّ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يَقْتَصُّ الْخَلْقُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، حَتَّى الْجَمَّاءُ مِنْ الْقَرْنَاءِ، وَحَتَّى الذَّرَّةُ مِنْ الذَّرَّةِ) رواه الإمام أحمد
العبد يجيء يوم القيامة، بأمثال الجبال من الطاعات، فيرى أنها ستنجيه، فما يزال عبد يجيء فيقول: رب إن فلانًا ظلمني بمظلمة، فيقول: خذ من حسناته.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إلى أصحابه يبيّن لهم الحقائق، ويصحح لهم المفاهيم، ويلفت انتباههم إلى ما غاب عنهم أو التبس عليهم، وكثيرا ما كان يجلي لهم الفارق بين قوانين الدنيا وقوانين الآخرة، وبين موازين الله وموازين العباد.
جلس معهم ذات يوم فسألهم “كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة”: أتدرون ما المفلِسُ؟ قالوا: المفلِسُ فينا من لا درهمَ له ولا متاعَ. فقال: إنَّ المفلسَ من أمَّتي، يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مالَ هذا، وسفك دمَ هذا، وضرب هذا. فيُعطَى هذا من حسناتِه وهذا من حسناتِه. فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضيَ ما عليه، أخذ من خطاياهم فطُرِحت عليه ثمَّ طُرِح في النَّارِ] (رواه مسلم).
لقد حدثوه عن مفاليس أهل الدنيا، وحدثهم عن مفاليس يوم القيامة.
حدثوه عن الإفلاس المؤقت، وحدثهم عن الإفلاس الدائم.
حدثوه عن إفلاس قد يأتي بعده غنى ويستغني صاحبه بعده، وحدثهم عن إفلاس لا غنى بعده أبدا.
حدثوه عن إفلاس ربما لا يضر بدين صاحبه، وحدثهم عن إفلاس يدخل صاحبه النار.
على المسلم أن يكون يقظًا تجاه حقوق الخلق، مرهف الإحساس نحوها، جاء في الأثر أن محمد بن واسع كتب إلى رجل من إخوانه: “أما بعد، فإن استطعت أن تبيت حين تبيت وأنت نقي الكف من الدم الحرام، خميص البطن من الطعام الحرام، خفيف الظهر من المال الحرام فافعل، فإن فعلت فلا سبيل عليك؛ (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) …. والسلام”.
وكلم رجلٌ الخليفةَ الراشد عمر بن عبد العزيز يوما حتى أغضبه، فهمَّ به عمر ثم أمسك نفسه، وقال للرجل: “أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان، فأنال منك ما تناله مني غدا؟ قم -عافاك الله”.
إن التحلل من المظالم في الدنيا فهو خير من قصاصها في الآخرة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مَن كانت لِأَخِيه عنده مَظْلِمَةٌ من عِرْضٍ أو مالٍ، فَلْيَتَحَلَّلْه اليومَ، قبل أن يُؤْخَذَ منه يومَ لا دينارَ ولا دِرْهَمَ، فإن كان له عملٌ صالحٌ، أُخِذَ منه بقَدْرِ مَظْلِمَتِه، وإن لم يكن له عملٌ، أُخِذَ من سيئاتِ صاحبِه فجُعِلَتْ عليه” (وهو في صحيح الجامع، وأصله في البخاري).
ولتكن معاملتك الخلق بالعفو والصفح؛ عسى أن يعفو الله عنك، فإن الجزاء من جنس العمل، قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُم} قال ابن القيم: “اللهُ -عز وجل- يعامل العبدَ في ذنوبه بمثل ما يعامل به العبدُ الناسَ في ذنوبهم”.
نسأل الله أن يعيذنا وجميع المسلمين من إفلاس الدنيا وإفلاس الآخرة، وأن يجعلنا من الفائزين.