موجز قصة النكبة 2
l. محمد الهامي
بدأت القصة منذ 1896م، وتوقفنا في المقال السابق عند نهاية الحرب العالمية الثانية، حينئذ كانت الصورة في فلسطين بائسة على كل المستويات:
– فعلى المستوى الدولي: انتصر الحلفاء على دول المحور الذين تعلقت بهم الآمال العربية والفلسطينية، مما جعل مشروع الدولة الصهيونية سائرا بلا أي عرقلة سياسية، وقد قرأت الصهيونية الموقف سريعا فنقلت ثقل نشاطها واعتمادها من بريطانيا إلى أمريكا (1942م).
– وعلى المستوى الداخلي كانت الصهيونية ترسخ وجودها على الأرض بمستوى متصاعد، فقد تحولت عصابات الهاجاناه إلى جيش حقيقي بما تحصل لها من خبرة وعلوم عسكرية وأسلحة وعتاد من مشاركتها في الحرب العالمية الثانية إلى جوار بريطانيا، وكان الجهاز الأمني الصهيوني يتمّ خطته التفصيلية عن القرى الفلسطينية فيجمع عن كل قرية: نوعية الأرض والسكان والحالة الاقتصادية والاتجاهات السياسية ومدى سهولة أو صعوبة احتلال القرية، ويستزيد من صناعة العملاء ومراقبة المجتمع الفلسطيني وما بقي من مراكز تأثيره، وقد صارت له مؤسسات “إسلامية وطنية” لتشاغب على المؤسسات الحقيقية وتثير أزمات الفرقة بينها وصرف الناس عنها.
– وأما على المستوى الفلسطيني فقد كانت الحالة سيئة، فلم يزل المجتمع الفلسطيني يعاني من ضرب جيل المقاومة الذي استمرت ثورته بين (1936 – 1939م)، والتي أسفرت عن قتل خمسة آلاف فلسطينية وجرح أربعة عشر ألفا، وما صحب ذلك كله من تجريد السلاح وهدم البيوت، ومقتل القادة، ووجود القيادات السياسية بالخارج منقطعين عن أوضاع الداخل، مع التمزق العربي ووقوع بلدانه تحت الاحتلال.
كررت الصهيوينة الخطة القديمة، وضعت نفسها في خدمة القوة الدولية لتبلغ أهدافها، لكنها نقلت نشاطها من بريطانيا إلى أمريكا مع تغير موازين القوى فيما بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت أمريكا حينئذ ترث الوجود الإنجليزي والفرنسي في الشرق، فكانت الصهيونية هي ذراعها لإخراج الإنجليز من فلسطين، فانقلب الصهاينة على الإنجليز، وطالب مؤتمر الحركة الصهيونية الذي عقد في أطلنطا بأمريكا (1944م) بضرورة خروج الإنجليز من فلسطين وتوفير حماية دولية لليهود، ثم أشعل الصهاينة حرب عصابات ضد الجيش البريطاني نفسه، وقاموا بعدة عمليات تفجير واغتيال وخطف مؤثرة، حتى بلغ القتلى في صفوف البريطانيين 169 بين عامي (1946، 1947)، وعند نهاية سنوات الانتداب كانت العصابات الصهيونية قد نفذت خمسمائة عملية ضد الإنجليز، وكم كان مثيرا مشهد تشرشل –الذي كان أول من درب العصابات اليهودية قديما- وهو يعلن مرارته ويحذر وينذر في الأمم المتحدة، ولكنه التحذير الذي يعرف الجميع أنه أجوف!
وبرغم كل هذا تكاد بريطانيا أن تكون التزمت الصمت ولم ترد بشيء على الصهاينة، فقد صارت الصهيونية في الحماية الأمريكية، كما أن كثيرا من عناصر الشرطة والجيش الإنجليزي في فلسطين هم من اليهود والصهاينة أنفسهم. وذلك في نفس التوقيت الذي كانت تعتقل فيه الفلسطينيين لمجرد حيازة السلاح، حتى بلغ عدد المعتقلين (300) في النصف الأول من عام (1946م).
وعلى الجانب السياسي العالمي كانت الصهيونية تمول حملة الرئيس الأمريكي ترومان والذي كافأهم بعد فوزه بالموافقة على هجرة مائة ألف يهودي إلى فلسطين. كما كانت الصهيونية في أمريكا تجمع من اليهود تمويلا لإنشاء صناعات عسكرية في إسرائيل، وبهذا صارت عصابات الهاجاناه تصنع بعض أسلحتها بنفسها مما قوى مركزها الفعلي حتى ضد البريطانيين الذين اضطروا لإعلان مغادرتهم فلسطين بعد سنتين أي في عام (1948م).
بدأت عملية وراثة فلسطين من الإنجليز، اشترى اليهود من أسلحة الإنجليز بالمال ما لم يأخذوه بغير طريق الدعم، فكانت لديهم 24 طائرة اشتروها بخمسة ملايين جنيه، وعند بداية 1948 كانت الوكالة اليهودية تسيطر فعليا إداريا وعسكريا، ولديها جيش مقاتل يتكون من: عصابات الهاجاناه (35 ألفا) وعشرة آلاف مقاتل من الوحدات الخاصة، وتنظيمات عصابات الإرجون واشتيرن. وعملت هذه العصابات على تنفيذ خطة التهجير للفلسطينيين، فتنوعت عملياتهم بين الهجوم العسكري على القرى وتهجيرها، أو تفجير الأسواق والمحال، أو نصب الكمائن على الطرقات وقتل الفلسطينيين، أو تنفيذ عمليات خاصة قامت بها وحدات المستعربين التي ظهرت في تلك الفترة.
في اجتماع بتاريخ (10 مارس 1948م) لقيادة الهاجاناه، أي قبل نهاية الانتداب البريطاني بشهرين، أتموا الخطة التفصيلية للتعامل مع كل قرية فلسطينية يراد تهجيرها، وكانت الخطة تعتمد على الرعب أكثر من اعتمادها على التفوق العسكري، فلا بد من مذبحة أو ضربة هائلة تسفر عن خروج السكان من هولها قبل أن ينخرطوا في اشتباك أو مقاومة، وإذا وقع بعضهم في الأسر كانوا يقتلون بعضهم قبل نقلهم إلى معتقلات مركزية لتحقيق هدف الرعب وشل محاولة المقاومة، وإذا حوصرت القرية فهي تُحاصر من ثلاث جهات وتُقصف بغزارة ليهرب أهلها من الجهة الرابعة. وكانت خطة التهجير تبدأ من ساحل المتوسط وتمتد شرقا لكي يظل اتصال الدولة اللقيطة بالبحر، فكان أول المهجرين أهالي القرى والمدن الشمالية والغربية من فلسطين، ويقدر عدد المهجرين بثلاثمائة وخمسين ألف فلسطيني!
لقد أبدى الفلسطينيون مقاومة باسلة، لكنها مقاومة متبعثرة ومشتتة، تعاني من الفارق الضخم في القوة والتسلح، وتعاني من ضعف الكوادر الناتج عن سحق جيل الثورة قبل عشر سنوات، وتعاني من التواطأ العالمي لا سيما البريطاني، وتعاني من الخيانة العربية التي يحكم عواصمها عملاء يساعدون في قتلهم وإبادتهم، ولا تزال رسالة عبد القادر الحسيني إلى جامعة الدول العربية تختصر هذا المشهد “إني أحملكم المسؤولية بعد أ، تركتم جنودي في أوج انتصاراتهم بدون عون أو سلاح”، واستشهد بعد رسالته بثلاثة أيام (9 إبريل 1948م)، وبينما يشيع الناس جنازته، كانت قرية دير ياسين تتعرض للمذبحة.
عند يوم 14 مايو 1948م، غادر الحاكم البريطاني فلسطين، ونزلها بن جوريون، وأعلن “استقلال” دولة إسرائيل، وخلفه كانت تنتصب صورة كبيرة للمنظر المؤسس: تيودور هرتزل، الذي بذر البذرة ومات بعد ثمان سنوات، ثم تحقق حلمه بعد موته بأربعين سنة!
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ فلسطين والعرب والمسلمين بل والعالم!
عندئذ سمحت بريطانيا بدخول القوات العربية الهزيلة عددا وسلاحا إلى فلسطين، كانت الجيوش السبعة لا تزيد عن 24 ألفا، وهم أقل من ثلث القوة العسكرية الصهيونية، إضافة إلى فارق التسلح والخبرة والتدريب، دخلت الجيوش العربية بشعار “تحرير فلسطين” ليرتسم بدخولها الجانب الآخر من المهزلة، فبالإضافة إلى هزالها عددا وعدة وخبرة فإنها تخضع لتوجيه أنظمة تخضع للاحتلال، وبقيادة إنجليزية (جلوب باشا قائد الجيش الأردني، ومساعدوه إنجليز)، فإما أنها جيوش لم تحارب، وإما أنها كانت تدخل إلى القرى لتجردها من السلاح ثم تنسحب في المعركة أمام القوة الصهيونية فتغدو القرية بلا سلاح، ثم يأتي الصهاينة فينفذون مذبحة جديدة تثير الرعب والفزع وتنتج موجة جديدة من الهجرة، وقد نفذ الصهاينة مذابح في اللد والرملة في ظل وجود الجيوش العربية ولم يحرك أحد منهم ساكنا، وفوق ذلك فإن سائر ما استطاع أن ينجزه المجاهدون المتطوعون تدخلت الأنظمة العربية نفسها لإيقافه وإنهائه إما بإصدار أوامر انسحاب أو بتعديلات الخطة أو بإيقاف التقدم أو حتى بسجن المجاهدين!
وهكذا سقطت فلسطين! ولم يكن نصيب العملاء في سقوطها بأقل من نصيب الصهاينة أو المحتلين!
لئن كان هرتزل هو صاحب الفكرة والبذرة الأولى، فيجب ألا ينسينا هذا جهود من تلاه، لا سيما هذا الثلاثي الخطير: حاييم وايزمان، هربرت صموئيل، بن جوريون!
لقد عمل هؤلاء الثلاثة على تطويع كافة الظروف الدولية والداخلية لخدمة خلق الدولة الصهيونية، وعملوا في نفس الوقت على ألا تكون إسرائيل مرتبطة ارتباطا كاملا بالمزاج السياسي الغربي، بل أسسوا للاستقلال اليهودي العسكري والاقتصادي والأمني، فتكون قوتهم الذاتية طرفا في معادلة السياسة، وبرغم ما يبثه هؤلاء من تحريض شعبي وديني لليهود فإنهم عملوا على خلق الظروف المواتية للدولة قبل نشوئها أو إعلانها، فلما جاءت لحظة الإعلان كانت إسرائيل أمرا واقعا!
ولئن كان هؤلاء يستحقون أن توضع أسماؤهم في سجل شرف الصهاينة، فيجب ألا ننسى أبدا أن آخرين يستحقون أن توضع أسماؤهم في سجل العار من دفتر العرب!