مقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

موقف محمد إقبال من الحضارة الغربية

فرح كُندي

يعتبر الفيلسوف الشاعر المفكر جوهرة الشرق محمد إقبال، من أهم عقول الحضارة الإسلامية في القرن التاسع عشر الميلادي؛ مما جعله وفكره محل اهتمام كبير وعناية فائقة من قبل الدوائر الفكرية ومراكز البحوث الجامعية والشخصيات الاستشراقية الغربية؛ بكونه عقلية شرقية نهلت من عمق الحضارة الإسلامية وتشرّبت أغزر وأعمق الفكر الفلسفي الغربي، دون أن ينسلخ عن دينه وحضارته وثقافته الأولية، التي بقي يعتز بل يفتخر بالانتماء إليها، ويعلن وبكل ثقة عن سروره بهذا الانتماء لهذه الحضارة.
تختلف الروايات حول تاريخ ميلاد إقبال؛ إلا أن الدراسة التي قام بها الباحث “جان مارك” الأستاذ بجامعة “براغ” أثبتت أن ميلاد إقبال كان في (التاسع من نوفمبر 1877 ميلادية) الموافق (للثالث من ذي القعدة 1294 هجرية) وهو التاريخ نفسه الذي سجله إقبال بنفسه في مقدمة كتابه: (تطور الماورائيات في فارس) الذي حصل به على درجة الدكتوراه من جامعة “ميونخ الألمانية”.

 

 

بدأ إقبال أولى مراحل تعليمه في طفولته المبكرة على يد أبيه، ثم أُدخل الكتاب ليحفظ فيه الشيء الكثير من القرآن الكريم، ثم التحق بمكتب تعليم بمدينة “سيالكوت”؛ ليلفت انتباه معلميه وليهتموا به ويقربوه إليهم، ويقوموا بتقديم الجوائز التشجيعية له.

ليستمر إقبال في تحصيل العلوم الدينية واللغتين العربية والفارسية حتى إتمام مرحلة التعليم الثانوي، لينتقل إلى مدينة لاهور عاصمة إقليم البنجاب للدراسة بجامعتها الحكومية التي لم يكد يتخرج فيها إلا وقد تم تكليفه بالتدريس في أروقتها من الفلسفة واللغة الإنجليزية (ومما تجدر الإشارة إليه أن إقبالاً اتصل أثناء دراسته بمدينة لاهور بالأستاذ الشهير والمستشرق القدير “توماس آرنولد” فتتلمذ عليه في مادة الفلسفة الحديثة، فجلب اهتمامه، واستشفّ الأستاذ المستشرق ملامح النبوغ في تلميذه؛ فعمل على تنمية شخصيته، وأتاح لمواهبه أن تتبلور، وشجع كل ذلك إقبالًا على أن يتقدم في دراسته العلمية والفلسفية، وأن يثبت كفاءة عالية كانت سببًا في تقوية عرى الصداقة بين الأستاذ والتلميذ، وحافزًا على مواصلة التعمق في العلم والبحث خارج الهند والرحلة إلى أوروبا لإتمام الدراسة ومزيد التخصص والحصول على درجة الدكتوراه من جامعاتها.

أخذ الأستاذ إقبال بنصيحه أستاذه ورحل إلى أوروبا في سنة (1905م) ليلتحق بدراسة الفلسفة في جامعة “كمبردج” أشهر الجامعات البريطانية على الأستاذ “ماك تاكرت” الذي احتفى به ووجهه إلى رفوف مكتبة الجامعة للدرس والمطالعة حتى يتمكن من الحصول على درجة علمية عالية في الأخلاق والفلسفة التي عشقها وجعل منها موضوعًا مهمًا في حياته العلمية والفكرية وخلال هذه الفترة (تأثر إقبال بأستاذه “ماك تاكرت” تأثراً جليا، إذ رأى في فلسفته لوناً خاصاً من الصوفية المتأثرة بالفكر أدت به إلى معرفة الله)
بعد أن نهل إقبال من العلوم ما قدر له أن يجمعه في بريطانيا؛ توجه شطر ألمانيا لتعلم اللغة الألمانية ونهل من العلوم التي أهلته لنيل درجة الدكتوراه سنة 1907 الميلادية؛ بعنوان: (تطور الماورائيات في فارس) تحت إشراف العلامة “هومل” (وقد جاء بحثه على غاية من العمق الفلسفي فكان أول كتاب في هذه المادة عرّف الأوروبيين بمقدرة الرجل وسعة اطّلاعه على ما خفي لديهم من الملامح الصوفية الإسلامية).
وبعد أن نال إقبال مبتغاه في الحصول على الدرجة العلمية في الفلسفة من ألمانيا؛ عاد أدراجه إلى بريطانيا ليلتحق بمجال آخر وهو مجال دراسة القانون في كلية العلوم السياسية فنال منها إجازة في القانون مع لقائه بأستاذه آرنولد للمرة الثانية الذي رشحه لينوب عنه في تدريس مادة الأدب العربي في جامعة كمبردج طوال فترة انشغال الأستاذ آرنولد.
و(لم يكن إقبال كغيره من طلاب الشرق حين يذهبون إلى أوروبا؛ فيجدون أنفسهم في عالم جديد؛ فيندفعون في تياره، ويضيّعون فيه أوقات فراغهم، وينسلخون عن بيئاتهم؛ ويتنكرون لمقوماتهم الحضارية، بل كان يكدّ ويجدّ حتى في وقت فراغه)
الذي لم يقتصر فيه أثناء فترة بقائه في أوروبا على نيل الشهادات العلمية العالية؛ بل أسهم في إعطاء المحاضرات العامة التي ركز فيها على التعريف بالإسلام وبقيمه الإنسانية والحضارية بطرح ومنهج علمي رصين؛ جلب له احترامًا كبيرًا في الأوساط العلمية وخاصة من أساتذته الذين كانوا يتباهون به كأحد أبرز طلابهم المتميزين.
وهو ما فتح أمام إقبال أبواباً من العلاقات العلمية الواسعة مع عدد كبير من العلماء والكتاب وخاصة ممن عرفوا بالاهتمام بموضوع الاستشراق من الباحثين الكبار في موضعه، وكان من أهمهم وأشهرهم أستاذه تاكارت، والأستاذ برجسون، والأستاذ وينكلسون.
ما فتح لإقبال أبواب معرفة الحضارة الغربية وعن كثب، وعلى يد أكابر علمائها ومفكريها في حينه. ليحكم على نتاجها المعرفي والحضاري عن كثب ومباشر ودون وسيط؛ وليخرج بحكمه المباشر وفق القرائن والحقائق التي تعمق في سبر أغوارها إلى أن وصل إلى حقيقتها المجردة ليصدر عليها حكمه النهائي القائم على العلم والدراية الحقيقية المباشرة. (وبعد أن درس إقبال الحضارة الغربية دراسة واعية ومتفحصة، وقارنها بالحضارة الإسلامية؛ وصل إلى أن الحضارة الأوروبية مادية، وأن سمات النهضة التي قامت عليها سمات عقلية لا قلب لها ولا روح فيها)
وقد أشار إقبال إلى فساد مقومات الحضارة الغربية ونبه إلى خطرها على المجموعة الإنسانية وخطرها حتى على الغرب نفسه وأنها سوف تنهار على رؤوسهم وبأيديهم، (يا ساكني ديار الغرب ليست أرض الله حانوتًا، إن الذي تتوهمونه ذهبًا خالصًا؛ سترونه زائفًا، وإن حضارتكم ستبعج نفسها بخنجرها، وإن العز الذي بني على غصن غض رقيق لا يثبت)
وقد صرح إقبال بما عاناه من تعب ومشقة نفسية كبيرة أثناء دراسته في أوروبا حتى شبه معاناته بما قاساه نبي الله إبراهيم عليه السلام ليخرج سالما متمسكا بدينه وخلود رسالة الإسلام ومبادئه الربانية السامية التي تعلو على كل ما سواها من الحضارات القائمة على غير هدي إلهي وتوجيه نبوي يجمع بين الروح والمادة وفق منهج عادل (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) الآية.
ليت شعري ماذا لو عاش إقبال وشاهد ما عليه أبناء جلدته المنتمون إلى عقيدته وهم تائهون في أوحال الحضارة الغربية المادية غارقون في بحار شهواتها منغمسون في لجاج بحار شكها وإلحادها، وهذا ناتج عن الفراغ العلمي والفكري الذي يسببه نظام التعليم في البلاد الإسلامية الذي لم يوفر الحصانة العقائدية والفكرية والثقافية لطلاب العلم من الذين يراد ابتعاثهم للتعليم في بلاد الغرب حتى يكونوا من العلم والثقافة والثقة التي كانت عند إقبال الذي عبر عن ثقته بنفسه وبحضارته وأمته فقال: “كسرت ظلم العصر الحاضر وأبطلت مكره، التقطت الحبة وأفلت من شبكة الصياد، يشهد الله أني كنت في ذلك مقلداً لإبراهيم، فقد خضت في هذه النار واثقا بنفسي وخرجت منها سليماً محتفظا بشخصيتي”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى