مُستَعمَرات مُعاصِرة!

بقلم: د. ونيس المبروك
الأمين المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
جمعني اللقاء في أكثر من مناسبة لإلقاء محاضرة بعنوان: “طبيعة الأشياء وأثرها في واقع الناس وحياتهم”، وقد تناولت في المحاضرة مجموعة من القضايا الكبرى وبينت طبيعة كل قضية وأثر معرفة تلك الطباع على حسن التعامل معها!
وتدور المحاضرة على فكرة أساسية لكنها منهجية مهمة، ملخصها أن الله تعالى جعل لكل شيء “طبيعة” تُميزه عن غيره، ثم حثنا على معرفة طبائع الأشياء من حولنا كمقدمة صحيحة للتعامل معها.
إن معرفة الناس لطبائع الأشياء من حولهم هي أعظم عون على حُسن فهمها ثم وضع التدابير للتعامل معها، خيرا كانت أم شرا، عاجلة كانت أم مؤجلة، عامة كانت أم خاصة، وفي كل شأن من شؤون الحياة.
ومما يُسبب هدر الأوقات، وانحراف المسارات، وسوء المآلات؛ الجهل بطبيعة الأشياء،
ولأن الحياة سياسة والسياسة باتت هي الحياة، فإن معرفة “طبيعة المرحلة” التي تعيشها الأوطان والأمة، مسألة في غاية الأهمية،
أقول: مع تقديري لكل من يرى أننا دول مستقلة، أو يصدّق أكذوبة “السيادة الوطنية”! إلا أني لا أستطيع دفع قناعتي بأن طبيعة المرحلة التي يعيشها العرب على وجه الخصوص، هي مرحلة ” استعمار “متكامل الأركان!
كم أتمنى أن أكون مخطئا، فأنا لا أنكر وجود جوازات سفر خاصة، وأعلام مخصوصة، ودساتير على ورق، وبوابات دخول عند خطوط رسمتها أنامل “سايكس بيكو ” وسفارات تتبع الخارجية، وسجون تتبع الداخلية، و….
لكني أراها جملة من الإجراءات والأدوات اخترعها المستعمر الجديد لتنظيم أحوال الرعايا، وتخدير مشاعر سكان المستعمرات المعاصرة.
المستعمر اليوم لم يعد في حاجة كي يرسل جيوشه مادامت هناك جيوش تقوم بمهمته على أحسن وجه!
ولم يعد في حاجة كي يبعث حاكما أزرق العين أشقر الشعر ليجبي ثروات البلاد ويقمع حرية العباد مادام هناك حاكم يقوم بذلك على أحسن وجه!
لم يعد في حاجة لغزو عسكري مادام الغزو الفكري والثقافي يقوم بذلك على أحسن وجه!
لم يعد في حاجة لتحريف ديننا وتزوير تاريخنا مادام هناك دعاة ومثقفون يقومون بذلك على أحسن وجه!
لست مع مقاطعة هؤلاء، ولا اعتزال الواقع والتنكر له، فهذا تكليفٌ بغير المستطاع، وبعدٌ عن الواقع، بل أدعو للتعامل مع الواقع، ومحاولة الانطلاق منه لتوسيع دائرة النفع والإصلاح بحسب المتاح، ولكن بعد معرفة “طبيعة” المرحلة، وبعيدا عن زيف المصطلحات والشعارات، فالعبرة بالحقائق والمعاني لا بالشعارات والمباني.
من هنا نبدأ، إن أردنا الإصلاح والتغيير، أو إن شئت فقل “الاستقلال”!!
وأن لا نبيع لأجيالنا الوهم المُريح، ونشارك في تخدير مشاعر شعبنا وتزييف وعيهم.