نحو منهجية عقيدة توحد الأمة
أ. فرحات الهوني
اتفق جمهور العلماء أن مصطلح “العقيدة” لم يرد ولا وجود لهذه اللفظة في الكتاب والسنة، ولا في أمهات المعاجم والكتب، وأكدوا أن أول من جمعها على كلمة “عقائد” هو القشيري (سنة 437 هـ) في “الرسالة”، ومن بعده أبو حامد الغزالي (سنة 505 هـ) فذكرها مفردة، فإن المصطلح الوارد في النصوص الشرعية من قرآن وسنة هو الإيمان ومثاله حديث جبريل: “ما الإيمان” ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم، “أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره”، وعادةً ما يشار إلى الإيمان أنه استقرار في القلوب، قال تعالى في سورة الحجرات: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا).
لكننا نقول إنه لا مشاحة في المصطلح وهو العقيدة الذي يدل على ما يثبت ويعقد عليه في القلوب؛ خاصة أنه صار مستخدما ليدل على التصوّرات الذهنية فيما نعتقده عن إيماننا بأركان الإيمان الستة التي أشرنا إليها في حديث جبريل آنف الذكر، وقد جاء المتأخرون من العلماء وكتبوا في العقائد والخلافات التي انبثقت عنها حتى ذهب بعضهم إلى التفسيق والتبديع والتكفير وقامت عليها منازعات وتمزقت الأمة إلى وقتنا الحاضر.
إن التوسع في فروع العقيدة وفي مسائل مثل الأسماء والصفات والتأويل وغيره، ظهر في الأمة كرد على الفلسفات والأفكار الواردة علينا في فترة من فترات تاريخنا، وكان لا بد من التصدي لهم بأساليبهم ومصطلحاتهم فكان الرد، وظهر علم الكلام والطرح الفكري الفلسفي وربما حدثت جدالات لا مبرر لها، لكن كان هناك فريق يسعى لإقامة الأدلة بالمنطق والعقل ليرد على كل الشبهات ولتظل العقيدة سليمة صافية.
ولو نظرنا كيف تعامل السلف الصالح مع هذا المفهوم لتجنبنا التفرق المذموم وتعايشنا بالاختلاف المشروع. المسألة ليست معقدة كما يراد لها أن تفهم من البعض، بل كانت تعرض بمفهوم ميسر يستوعبه كل مسلم وكل من يريد الدخول في دين الإسلام مهما كانت بيئته ومستواه العلمي والفكري وليس لعلم الكلام والفلسفة أي دور فيها. الرسول صلى الله عليه وسلم عرضها في مكة بعمق الشهادتين ومدلولاتها يُسأل عما عنده فيقول: “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمد رسول الله”.
ورد في صحيح البخاري حديث الجارية التي قال لها صلى الله عليه وسلم: “أين الله” قالت: “في السماء” قال: “من أنا” قالت: “أنت رسول الله” قال: “اعتقها فإنها مؤمنة”.
علق الإمام ابن حجر في شرحه للحديث: “الإيمان به من غير خوض في معناه مع اعتقاد أن الله تعالى ليس كمثله شيء وتنزيهه عن سمات المخلوقات”.
إن العقيدة تجمع ولا تفرق وتبني ولا تهدم وعلينا أن نعرضها كما عرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ميسرة سهلة، يفهمها الأمي والمتعلم ويعيش المسلم في رحابها إيمانا خلاقا فكرا وسلوكا، قلبا وعقلا، ويقدمها للعالم ربانية في مواجهة الإلحاد والشرك.
وهذا ما أكده الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي في إحدى محاضراته “جمع الناس على الحد الأدنى من الإسلام ـ أي الذي يجعل من المسلم مسلماً” ويقصد بها أركان الإيمان الستة وقواعد الإسلام الخمس.
وبعيدا عن كل المناكفات والخلافات والفلسفات الجدلية، وضع المعتدلون الوسطيون في منهجهم الفكري والتربوي التصور السليم الضابط بالنبراس النبوي، الذي سار عليه سلف هذه الأمة الصالح في مفهوم العقيدة وهو مفهوم تجميعي لشتات الأمة المتناحرة وفق الكتاب والسنة وإجماع العلماء من السلف الصالح والثقات من المتأخرين، وقد جاء الأصل في فهم هذه العقيدة من العلماء الوسطيين وبعيداً عن كل تنطع وتعقيد قولهم:
“ومعرفة الله تبارك وتعالى وتوحيده وتنزيهه أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة وما يليق بذلك من التشابه، نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء، ويسعنا ما وسع رسولَ الله-صلى الله عليه وسلم-وأصحابَه﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾(آل عمران: من الآية 7)”.
هذا الأصل يوضح مكانة التوحيد في الإسلام، ويبيِّن الموقف الوسط من آيات الصفات وأحاديثها الصحيحة. وواجب المسلم أن يثبتَ لربه كلَّ صفات الكمال وأن ينزَّهَه عن كلِّ نقص.
ولذا عمد المنهج إلى الوسطية:
1-إيمان بها بلا تأويل ولا تعطيل: وهذا مذهب السلف الأعلم والأحكم والأسلم، ونفي التأويل أي صرف اللفظ عن معناه الراجح القريب إلى المرجوح البعيد بلا قرينة توجب ذلك، وأن نقف عند المعنى على ما يليق بجلال الله، والتعطيل معناه: نفي مدلولات الألفاظ التي تصف الله تعالى نفيًا مطلقًا، فالله تعالى عند المعطلة لا يتكلم ولا يسمع ولا يبصر.
2-الكف عن نزاع العلماء: لقد حدث نزاعٌ طويلٌ بين العلماء حول هذا الجانب، وكان له أثره في وحدة المسلمين، وهذا لمن يريدون أن يجمعوا قلوب الأمة، ولا يمكن جمعها إلا على الإجمال الثابت بالنص والإجماع وترك التفصيل المتنازع فيه في هذا المقام. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه إن أمكن أن يفصل النزاع بالعلم والعدل، وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع”.
والاعتقاد أن رأيَ السلف من السكوت وتفويض علم هذه المعاني إلى الله تبارك وتعالى أسلمُ وأولى بالاتّباع، حسمًا لمادة التأويل والتعطيل، فإن كنت ممن أسعده الله بطمأنينة الإيمان، وأثلج صدره ببرد اليقين، فلا تعدل به بديلاً.
وأن يعتقدوا إلى جانب هذا أن تأويلات الخلف لا توجِب الحكم عليهم بكفرٍ ولا فسوقٍ، ولا تستدعي هذا النزاعَ الطويل بينهم وبين غيرهم قديمًا وحديثًا، وصدر الإسلام أوسع من هذا كله.
وببساطة يفهمها كل الناس ذكر الشيخ محمد الغزالي ـ رحمه الله ـ في كتابه دستور الوحدة الثقافية: ونحن لا نريد أن نحدد الدائرة التي تعنيها كلمة “مسلم” فلا يخرج منها أحد له ذرة دين، ولا يدخل فيها أحد مبتوت الصلة بهذا الدين.
تعني حقيقة الإسلام عدة أمور:
1. معرفة الله على الوجه الصحيح فهو سبحانه لا شريك له، وليس كمثله شيء منزه عن النقص منعوت بكل كمال.
2. الاعتراف بحقوقه على خلقه فهو الرب المعبود، الذي يطاع أمره، وينفذ حكمه، والعلاقة بيننا وبينه بعد معرفته هي الخضوع له والسمع والطاعة لما يجيء منه
3. مظهر هذا الخضوع هو اتباع النبي الخاتم الذي أتم به كل الرسالات وأظهر على لسانه مراده من عباده إلى آخر الدهر.
والخلاصة أن السلف والخلف اتفقا أن المراد غير الظاهر المتعارَف بين الخلق، وهو تأويل في الجملة، وكذلك على أن كل تأويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز، فانحصر الخلاف في تأويل الألفاظ بما يجوز في الشرع، وهو هيِّنٌ كما نرى، وأمرٌ لجأ إليه بعضُ السلف أنفسهم، وأهمُّ ما يجب أن تتوجه إليه هممُ المسلمين الآن توحيدُ الصفوف، وجمعُ الكلمة، ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
وبذلك يكون واجبنا نحو ذلك:
– معرفة يقينية لا ذهنية
– توحيد صادق لا ريب فيه
-اعتقاد الكمال لله وتنزيهه عن كل نقص
– نبذ الفرقة والتشرذم وفتح مساحات للحوار وتقارب وجهات النظر على ضوابط الكتاب والسنة.
– التثبت من كل طعن يمس مسلمًا في عقيدته وعدم تشويهه وتفسيقه وتكفيره لمجرد خلافه معك.
– تعليم الناس انعكاس هذه العقيدة في حياتهم إيمانا وسلوكا وعملا
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.