هل أتاك نبأ الكتيبة المسلمة التي كادت تقتحم الأقصى؟
الأستاذ: محمد إلهامي
في سطر منزوٍ لا يكاد يلتفت إليه من مذكرات الحاج أمين الحسيني، يروي أنه اعتصم بالمسجد الأقصى حين كان مطاردا مطلوبا للسلطات الإنجليزية التي كانت تحتل فلسطين، ولأن المسجد الأقصى ذو قدسية دينية فقد بقيت القوات الإنجليزية تحاصر أسوار القدس تحاصر المسجد الأقصى دون أن تقتحمه، وظل هذا الوضع لثلاثة أشهر.. ثم تفتقت العقلية الإنجليزية عن حل آخر؛ جاءوا بقوة عسكرية من مسلمي الهند (التابعين للجيش الإنجليزي) لاقتحام الأقصى والقبض على الحسيني ومن معه من المجاهدين. ولأن هذه القوة “المسلمة” لن تتورع عن انتهاك حرمة الأقصى، فقد اضطر الحسيني إلى المجازفة والمغامرة، ونفذ خطة هروب من الحصار ثم من فلسطين لكي لا تنتهك حرمة الأقصى!
إن ما يجري في الضفة الغربية بيد أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لا يمكن أن يثير من الاستفزاز والإدانة والمشاعر مثل الذي يثيره ما تفعله القوات الإسرائيلية في نفس هذه الضفة الغربية!
إنها واقعة مصغرة وإرهاص قديم لما صار عليه الحال في عموم عالمنا العربي والإسلامي، فمع أن المحتل الأجنبي لا تنقصه العداوة ولا الإجرام إلا أنه يتورع عن انتهاك المقدسات خشية أن يكون انتهاكه هذا مثيرا لمشاعر الشعوب. وحينها: يأتي المحتل بالعملاء التابعين له ليؤدوا المهمة الأخطر والأقذر التي لم يتمكن المحتل من أدائها بنفسه!
إن ما يجري في الضفة الغربية بيد أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية لا يمكن أن يثير من الاستفزاز والإدانة والمشاعر مثل الذي يثيره ما تفعله القوات الإسرائيلية في نفس هذه الضفة الغربية!
كذلك ما ارتكبه جيش النظام السوري من جرائم ومذابح لم يثر شيئا يمكن أن يقارن به ما أثارته الجرائم الشنيعة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
وعلى جهة أخرى، فثمة حاجة ملحة إلى التفكر والتأمل في الطريقة التي أمكن بها للاحتلال تجنيد عدد من المسلمين، إلى الحد الذي يجعلهم يرتكبون ما لا يمكن للاحتلال نفسه أن يرتكبه! فكيف قد اشتد وصعب على الكافر الذي لا يرى للمسجد الأقصى حرمة أن يقتحمه، ثم هذا الصعب نفسه قد هان وسهل على الجندي المسلم الذي يفترض أنه يعظم المسجد الأقصى تعظيما دينيا مبعثه القرآن والسنة والتاريخ الطويل الحافل الممتد لأسلافه المسلمين؟!
إن الجنود عادة هم أبعد الناس عن التفكير، وإنما يغرس فيهم تقديس القيادة والولاء لها دون تردد، ولذلك فإنهم أكثر الناس ارتكابا لأشنع الجرائم دون أن يأبهوا ولا أن يفكروا لماذا اقترفوها، ومن ها هنا نفهم كيف يذكر الله هؤلاء الجنود إلى جوار فراعينهم، كما في قوله تعالى {ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} [القصص: 6]، وفي قوله تعالى {إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين} [القصص: 8]، وفي قوله تعالى {واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون} [القصص: 39].
ثم هو يركز على ذكرهم في العذاب والهلاك معهم أيضا: {فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم} [طه: 78]، وتأمل معي في هذه الآية جيدا، وهي قوله تعالى عن فرعون وجنوده: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين (40) وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون (41) وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين} [القصص: 40 – 42]
نهى النبي عن الالتحاق بأجناد الظالمين وأجهزة أمنهم، فإنه نهي عن السقوط في بئر لا قرار له، وإلقاء للنفس في مهلكة لا نجاة منها!
وجاء ذكرهم أيضا على وجه التفصيل في حديث النبي ﷺ: “ليأتين عليكم أمراء يقربون شرار الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فمن أدرك ذلك منهم فلا يكونن عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا خازنا”، فهنا ذكر النبي ﷺ أنواع الأجناد فإذا هم أربعة: الجيش والشرطة وجابي المال وخازنه!
وذلك أن الذي يتمتع بمزايا القوة والنفوذ، ومزايا المال والثروة، يكون ألصق بالحكم والحاكم مهما كان ظالما وفاسقا، وهو يسارع لتشرب قناعات الحاكم وأفكاره، بل قد يزيدها من عند نفسه ليرسخها في نفسه وعند غيره، بل قد يكون هو المحرض للحاكم على المزيد من ظلمه، كما في قوله تعالى عن حاشية فرعون: {وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون} [الأعراف: 127].
ولهذا كانت نهاية لفرعون هي ذاتها الدليل على انطماس العقول والقلوب لدى جنده، فتأمل كيف أن المعجزة الواحدة التي رآها السحرة فآمنوا قد رآها معهم الجنود فلم يفكروا في الإيمان، بل انقلبوا لتعذيب السحرة وتقطيع أيديهم وأرجلهم. ثم تأمل كيف أن البحر قد انشق لموسى أمامهم وصار طريقا صلدا يسيرون عليه، فلم يؤثر هذا فيهم ولم يخفهم ولم يحملهم على التردد في تنفيذ أمر فرعون، بل ساروا وراء زعيمهم فغرقوا معه!!
ولك أن تتخيل وتتأمل وتطيل التفكير في محاولة فهم نفسية الجندي الذي لم تؤثر فيه معجزة بحجم انشقاق البحر أمامه!!! فنفس مثل هذه، أي شيء بعد هذا يمكن أن يؤثر فيه؟!
ولذلك نهى النبي عن الالتحاق بأجناد الظالمين وأجهزة أمنهم، فإنه نهي عن السقوط في بئر لا قرار له، وإلقاء للنفس في مهلكة لا نجاة منها!
لعل هذا قد يفسر كيف أن كتيبة مسلمي الهند المجندين لحساب الجيش البريطاني لم تكن لتتردد في اقتحام الأقصى للقبض على “الإرهابي” أمين الحسيني، وهو يفسر كثيرا من المشاهد المعاصرة ليس أولها مذبحة المسجد الأحمر في باكتسان، ولا آخرها إحراق مسجد رابعة في قلب القاهرة!
هل كنت تعرف أنت قبل أن أتلو عليك قصة أمين الحسيني أن كتيبة هندية مسلمة كانت ستقتحم المسجد الأقصى للقبض على الحسيني؟!
لسنا هنا للكلام عن الماضي وحكاياته.. لكن هذا المسلسل يجب أن ينبهنا إلى سؤال المستقبل: ترى متى ستقتحم الجيوش العربية فلسطين لتحارب إلى جوار إسرائيل ضد حركات المقاومة؟!
هل بدا لك السؤال غريبا أو موغلا في التشاؤم؟! لا بأس.. فبم تفسر إذن أن الجيش المصري الذي كان تابعا للاحتلال الإنجليزي قد ساهم في احتلال القدس عام 1917 تحت قيادة الجنرال الإنجليزي ألنبي؟ وكيف ساهم الجيش الأردني في تنفيذ قرار التقسيم تحت قيادة الجنرال الإنجليزي جلوب باشا؟!
إذا عدنا بالزمن قرونا وقلنا للناس وقتها: ما رأيكم أن يقتل المسلمون في بلد، فتعمل الجيوش الإسلامية في البلاد المحيطة على حصارهم وإغلاق المنافذ عليهم.. هل تراهم يصدقون أو يستوعبون؟!
فإذا لم يكونوا ليصدقوا في ذلك الزمن، فماذا يمنع أن يأتي زمان قادم يكتب فيه كاتب من المستقبل: أن الجيوش العربية اقتحمت غزة والضفة الغربية لمساندة إسرائيل في القضاء على حماس والجهاد الإسلامي وبقية حركات المقاومة؟!
هل كنت تعرف أنت قبل أن أتلو عليك قصة أمين الحسيني أن كتيبة هندية مسلمة كانت ستقتحم المسجد الأقصى للقبض على الحسيني؟!
يجب أن نتوقع هذا الأسوأ، على الأقل لكي نتجنب أن يحدث..
إن الجيوش العربية تقوم بدور عظيم فعلا في حماية إسرائيل، وتكبيل الشعوب وإنهاكها وسلب مواردها وأبنائها.. ما بقي لها إلا أن تقوم بدورها الأخير في القتال معها! السؤال فقط: متى؟