مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

هل كتب أبو بكر القرآن..؟! وحرق عثمان المصاحف؟.

 

د. يونس ملال

جاءني اليوم طالب مذعور قد حشي رأسه بالشبهات فقال لي: أصحيح يا دكتور أن المصحف الذي نتلوه اليوم كتبه أبوبكر وعثمان حرق المصاحف المخالفة وترك نسخة رسمية؟

قلت وكيف ذاك؟! .. قال: سمعت أحد النصارى يقول إن المسلمين أوجعوا رؤوسنا بأن كتبنا محرفة ونسوا أن قرآنهم أيضا محرف فالنسخة التي عندهم هي نسخة كتبها الخليفة الأول أبو بكر بإشارة من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وحرق الخليفة الثالث عثمان بن عفان النسخ المخالفة، وذكر روايات في ذلك من كتب الحديث حول زيد بن حارثة وعمر بن الخطاب وغير ذلك

قلت: هل قرأت شيئا عن حفظ القرآن وتدوينه؟ قال: لا

قلت: إذن لا غرابة أن تقول مثل هذا الكلام إذا كان أول معلم لك في الموضوع نصراني مخرب ،وأحزنني أن طلبة العلم في التخصص عندنا فضلا عن غيرهم مازالوا يفتنون بمثل هذه الأقاويل الصبيانية.

كما غاضني ما رأيت من جهل يقف بعض المسلمين بسببه عاجزين حتى عن الدفاع عن الوحي الخاتم.

وهل يقوم لبقاء الدنيا معنى لو زال الوحي حقا.. وخلت ساحها من هداية الله للبشر لكنني لم أجد بدا من أن أشرح له حيثيات الموضوع وأجد أن الأمر يستحق النشر لعموم البلوى.

قلت: قال الله تعالى” انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون” وقال سبحانه” وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد”.. فهل هذه الآيات دعوى بغير دليل؟ أم هي مما كتبه أبو بكر من رأسه وأضافه من عنده.. ؟! أم أن تحت هذه الآيات من الأدلة والأسباب التي هيأها الله لحفظ كتابه ما يصرخ بصدقها ويقطع لسان كل معاند..؟! لنرى

أولا إن القرآن الكريم حفظ من طريقين: طريق التواتر الشفاهي. . وطريق التواتر الكتابي.. فلسنا فقط ندعي بأن القرآن الذي بين أيدينا هو القرآن الذي أنزله جبريل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون للعالمين نذيرا.. وبلغه النبي لأصحابه.. ثم نقله إلينا أصحابه الأطهار كما أنزل.. كلا..  ليس هذا فقط، بل نزعم فوق ذلك أننا نقرأه كما قرأه النبي عليه الصلاة والسلام تماما ونتلوه غضا طريا كما أنزل .. نمد حيث كان يمد ونغن حيث يغن وندغم ما كان يدغم ونقلقل حيث كان يقلقل. .

ولنبدأ من وقائع السيرة زمن الوحي فهي تخبرنا أن العرب كانوا أمة أمية وثقافتهم ثقافة شفهية. . لم يؤلفوا كتبا كالفرس والروم والإغريق، كنزهم الذي يفتخرون به كان ذاكرتهم الرهيبة التي تكاد لا تنسى شيئا.

ذكر صاحب الأمالي أن شاعرا فحلا من العرب يقال له الشاعر الجن ألقى في مجلس قصيدة من ألف بيت فلما أنتهى إلى آخرها قال له ابن عباس: لو شئت أعدتها عليك؟! قال الحاضرون: اوحفظتها يأبن عباس؟! فقال: أومنكم من يسمع شيئا ولا يحفظه؟ ! وعجبي من جواب ابن عباس أشد من عجبي من سؤالهم.

فإذا كانوا يحفظون الشعر والخطب هكذا، ويهذون الشعر هذا، ويعلقونه بحوافظهم قبل أن يعلق بأستار الكعبة، فكيف بقرآن آمنوا بصدقه وتعبدوا الله بتلاوته ورأوا فيه خلاصهم ونجاتهم ومنهج حياتهم. . ولا شك كانت الآيات النازلة تنقش في افئدتهم وعقولهم فلا تنسى. . حفظ القرآن جيوش من الصحابة والصحابيات فضلا عن كتبة الوحي وكبار الصحابة والخلفاء وأمهات المؤمنين.

فكانت منازل الأشعريين تعرف من سماع القرآن يدوي بمنازلهم.. وكانت جيوش المسلمين يسمع لها مثل أزيز النحل من ترداده .. وكانوا يغالون برفع الصوت به في المسجد حتى أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بخفض الصوت حتى لا يشوشوا على بعضهم وهم يتلون كلام ربهم.. كان هذا حال الصحابة مع القرآن .. فلم يكونوا أصلا في حاجة إلى جمعه وتدوينه وكتابته وصدورهم ممتلئة به.

ومع ذلك فقد اتخذ النبي كتبة استأمنهم على الوحي فبدأ النبي عليه الصلاة والسلام تدوين الوحي لحظة نزوله كانوا يكتبون ما يملي عليهم رسول الله وبين يديه.. وسيلتهم في ذلك ما كان متاحا من عظام أو جلود أو خشب أو سعف نخيل أو حجارة مسطحة ..الخ

وكنت دائما أتساءل لماذا كان النبي يأمر بكتابة الوحي وذاكرة العرب آنذاك هي وعاء أشبه بذاكرة الكمبيوتر اليوم

بل إن النبي زاد في حرصه على الكتابة أن نهى أن يكتب عنه غير القرآن وقال “لا تكبوا عني غير القرآن، ومن كتب شيئا غير القرآن فليمحه”؟!.. ولكن نظر النبي وتقدير الله يستشفان من الحجب ما لا نكتشفه إلا بعد لأي من الزمان.

وهكذا لم يقبض رسول الله إلا والقرآن جميعا محفوظ في صدور جماهير لا تحصى من المسلمين، ومكتوب كله عند كتبة الوحي مفرق عندهم على كثرتهم، وكان جبريل ينزل في كل رمضان يراجع القرآن مرة مع رسول الله .. وفي السنة التي قبض فيها راجعه بالقرآن مرتين.

لم نسمع زمن النبي أن المسلمين احتاجوا لشيء من هذا المكتوب .. ولا زمن ابي بكر ولا زمن عمر غير خشية خشيها عمر ولم تتحق، فزمن خلافة أبي بكر وبالضبط زمن حروب الردة ضد مانعي الزكاة ومدعي النبوة، رأى عمر ابن الخطاب أن حروب الردة هذه قد حصدت ما يربو عن المائة من خيرة القراء لأنهم كانوا في الصفوف الأولى من جيوش المسلمين، فأشار على أبي بكر أن يجمع ما كان كتب من الوحي بين يدي رسول الله في مصحف إمام واحد كي يكون حجة على المسلمين وعلى الدنيا كلها إلى يوم الدين .. وعمر ملهم محدث، كم من اجتهاد ورأي رآه فجاء القرآن يصدقه لكن تردد أبو بكر ابتداء خوفا من أن يفعل أمرا لم يفعله رسول الله وكان خوفه ورعا، وهو حقيق به، ثم شرح الله صدر أبي بكر لما شرح الله له صدر عمر .. فرأى أنه من الخير الذي ينبغي المبادرة به والإسراع إليه،.. وهكذا استجاب.

ولم يفعل أبو بكر شيئا بنفسه، بل رتب لجنة من كتبة وحي رسول الله على رأسهم زيد بن ثابت وجعل معه وزيره ومستشاره عمر بن الخطاب – رضي الله عنهم أجمعين – .. وكانت المهمة واضحة: هي جمع القرآن الذي كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وكان المنهج واضحا وصارما شديدا: وهو عدم قبول أي دعوى بأن هذا المكتوب قد كتب فعلا بين يدي رسول الله إلا بشاهدي عدل رغم أن كتبة الوحي والصحابة عموما عدول كلهم فقد أحاط الله نبيه بأصفي الخلق قلوبا.

ورغم أن القرآن محفوظ كله عن ظهر قلب وقد وصل مرحلة تجاوز فيها قنطرة إمكانية التزوير، وعلى رأس من حفظه كاملا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وزيد بن ثابت وسالم وبن مسعود وأبي بن كعب وخلق كثير.

ما الذي فعلته لجنة الخليفة أبي بكر رضي الله عنه إذن .؟! غاية فعلهم أنهم جمعوا القرآن كاملا من الفاتحة إلى الناس كما أنزل على رسول الله مما كان كتبه كتاب وحيه بأمره وتحت سمعه وبصره عليه الصلاة والسلام وشهد على كل جزء مما جمع شاهدان عدلان أو أكثر أو ما في حكمهما فهل في جمع المتفرق خيانة؟!

وأين الإضافة التي زادها أبو بكر فضلا عن القرآن الذي كتبه..؟! وعلى فرض سوء النوايا – بعد أستغفر الله العظيم – فأين الظروف التي تمكنه من التقول على الله أو زيادة آيات أو إنقاصها والمسلمون إجمالا يحفظون كتاب الله صغارا وكبارا رجالا ونساء!!…

وماذا حصل زمن عثمان رضي الله عنه ؟! كانت خلافة عمر خلافة فتوحات ودخول الأعاجم في الإسلام وحاجتهم كانت ماسة لتعلم العربية والقرآن.

وكذلك من بعده خلافة عثمان، وكان الصحابة قد تفرقوا في الأمصار يعلمون هذا الحشد الهائل من الأمم المنضمة حديثا لهذا الدين كلام الله تعالى؛ فاحتاجوا إلى نسخ من القرآن .. وكان بين يدي بعض الصحابة نسخهم الشخصية التي بعضها فيه بعض سور القرآن لا كلها.. وبعضها كان الصحابة قد كتبوا عليها شروحات مختصرة أو بضع كلمات توضيحية ربما سمعوها من رسول الله فاستعانوا بها على فهم القرآن.

والصحابة مطمئنون أن ذاك الكلام لا يتصور أن يختلط بالقرآن الذي استقر في قلوبهم. . كما نحن مطمئنون اليوم أن القرآن لا يختلط بالتفسير رغم وجودهما في كتاب واحد وصفحة واحدة كما في كتب التفسير لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للداخلين الجدد في الإسلام؛ فسمع بعض قادة الفتح اختلافا بين هؤلاء ربما حول عدد سور القرآن أو قراءته أو غير ذلك؛ فطلبوا من عثمان ابن عفان أن يدرك الناس قبل أن يختلفوا في كتاب الله.

فما الذي فعله عثمان بن عفان رضي الله عنه؟. تذكر “المصحف الإمام”، وهل يوجد أوثق منه ؟!.. إنه كان المصحف الوحيد التام الذي يجمع كامل التنزيل بين دفتيه يقينا، والذي جمعه أبو بكر مما كان كتبة الوحي كتبوه بين يدي رسول الله كما أسلفنا ..!

فرأى عثمان أن هذا هو زمن تعميم تلك النسخ. . وكانت النسخة عند أمنا حفصة بنت عمر بن الخطاب وزوج رسول الله.

ولماذا كانت النسخة عند حفصة؟! إن العمل الذي قام به أبو بكر يعد بمثابة حفظ أهم وثيقة للدولة الإسلامية آنذاك، فكانت محفوظة عنده ثم عند خليفته عمر ثم لما توفي عمر لم يطلبها عثمان لأنه لم يحتج اليها فبقيت عند ابنته وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة؛ ثم لما أحتاجها عثمان طلبها من حفصة فسلمتها راغبة، واقتصر عمل عثمان على أمرين أولهما أنه عمم هذه النسخة ووزعها على الأمصار.. والثاني أنه طلب المصاحف الشخصية التي كانت عند الصحابة غير كاملة أو فيها شروحات – والتي خشي أن تكون سبب فتنة على الداخلين الجدد في الإسلام  – فأحرقها – فهل بذلك وأد الفتنة وحفظ الوحي ؟! أم أنه تقول على الله

إنه قد قطع الطريق أمام من تسول له نفسه أدعاء تعدد المصاحف واختلاف القرآن، ولم يدع للمندسين والمغرضين سبيلا للتشغيب على كتاب الله المصون، لهذا نعتوه ذما بحراق المصاحف وقد كذبوا فهو ذوا النورين عليه من الله الرضوان صائن كتاب الله من دنس الشبهات ..

هذا ما وقع على سبيل الإجمال..

فهل يقارن كتاب صانه الله بكل هذه الأسباب بأناجيل لم يكتبها عيسى، ولم تكتب بحضرته، ولم يكتبها حواريوه، ولم تكتب حتى بحضرتهم، وبين أول إنجيل كتب ووفاة عيسى تسعون عاما وكل هذا معروف محفوظ من تاريخهم.

إن هذه الأناجيل وسائر مصادر دينهم لا تقارن في ثبوتها حتى مع منهجية جمع الأسانيد التي اعتمدها المؤرخون المسلمون في تدوين تاريخ الإسلام والسيرة النبوية .. فضلا عن أن تقارن بتواتر القرآن

ولا تقارن أبدا بمنهج نقل السنة وتحقيق أخبار الآحاد عندنا فلا علم للرجال عندهم، ولا معرفة لهم باتصال الأسانيد، وليس عندهم في هذا رواية ولا دراية.. إن أضعف حديث عندنا مما لا نحتج به، أوثق مما عندهم، ولكن ماذا عسانا نفعل مع قلة الحياء تذهب بهم كل مذهب في التزوير على ما عندنا وتناسي الأخشاب التي تتراكم في أعينهم فتفقدهم البصر والبصيرة.. لا نملك لذلك شيئا.. والحمد لله على نعمة الاسلام، ونعوذ به من جهل الجاهلين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى