عاممقالاتمقالات فكرية

وصايا في المكتبة

أ. محمد خليفة نصر

في المكتبة وصايا تكاد تتطابق في موضوعها رغم التباعد الزماني والمكاني بين كتابها. بعض هذه الوصايا سيكون محل عرض في هذا اللقاء، وسأبدأ بوصية محمد عبده وأنتهي بوصية فرانتس فانون، بعد المرور على وصايا عبد الوهاب المسيري، ومحمد عابد الجابري، وعبد الرازق السنهوري، ومالك بن نبي.

أولاً. وصيـة محمد عبـده.
القضايا التي أثارها الشيخ محمد عبده تستعصي على الحصر، لكن أهمها قضية التعليم وضرورة البدء به في الإصلاح. وبالرغم من مرور مائة وعشرين سنة على وصية الشيخ إلا أن أحوال التعليم في البلاد العربية لا تزداد إلا سوءًا. وهذا موضوع سأخوض في تفاصيله عندما أصل إلى المسيري، أما الآن فسأبقى مع وصية من وصايا الشيخ عبده التي لا تقل أهمية عن التعليم، بل هي من مشمولاته أو أهم أدواته، وتتعلق الوصية بضرورة تعلم لغة أوروبية للعلم والعمل معًا، إذ تقرر لدى الشيخ أنه “لا يمكن لأحد أن يدعي أنه على شيء من العلم يتمكن به من خدمة أمته ويقتدر الدفاع على مصالحها كما ينبغي إلا إذا كان يعرف لغة أوروبية”.

وعلى هذا الأساس تعلم الشيخ محمد عبده الفرنسية وهو في السن الرابعة والأربعين، ودخل في حوارات ومناظرات مع مفكرين وسياسيين عرب وأوروبيين بمعرفة موسوعية؛ فمن العرب ناظر فرح أنطون، ومن الأوروبيين ناظر الفرنسي غبريال هانوتو .

والحقيقة التي لا قبول للمراء فيها هي أن لغة أوروبية واحدة لا تكفي للاشتغال بالبحث فيما يسمى “العلوم الإنسانية”، لأن من يتعلم لغة أوروبية واحدة (لنقل الفرنسية مثلًا)، تظل هي بوابته إلى عالم العلم والمعرفة ،ويظل هو أسيرًا لها دون أن يعي من الحقيقة شيئًا، لكن لغة أوروبية واحدة أفضل من لا شيء، ولا سيما على الجانب العملي.

وبعد قرن من الزمان جاء عبد الوهاب المسيري ليطور الموقف في ضوء رؤيته لآثار التعليم الغربي الكارثية في أبناء المسلمين، والنتائج العكسية التي يحدثها، هذا التعليم يجبرهم على قمع الذات الإسلامية كشرط -غير معلن- لتلقي علوم الغرب.

ثانيًا: وصية عبد الوهاب المسيري:
قراءة رحلة المسيري الفكرية تعطيك فكرة عن المتاهة التي يدخلها أبناء الحضارة الإسلامية البائدة عندما يتعلموا تعليمًا غربيًا يحتم عليهم إلغاء هويتهم الحضارية، وفي هذا السياق بنى المسيري وصيته على اكتشافه “أن من أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي…!” ولذا رأى أن من الضرورة بمكان “تشجيع الباحثين [من أبناء المسلمين] على الانطلاق، من منظور عربي إسلامي ومنظور عالمي مقارن، يتجاوز المركزية الغربية التي سيطرت علينا جميعًا.

من وجهة نظر المسيري؛ الانطلاق من منظور عربي-إسلامي-عالمي يمكن أن يحقق الآتي:
1) يساعد الباحث على اختيار موضوعات جديدة يترجم إبداعه من خلالها.
2) يحول الغرب من تشكيل حضاري مطلق إلى تشكيل حضاري ضمن تشكيلات حضارية أخرى.
3) [النظر إلى الغرب] براحة دون قلق، إذ أنه إذا كان تشكيلًا ضمن تشكيلات أخرى، فليس على المرء قبوله (كما يفعل دعاة الغرب)، أو رفضه (كما يفعل بعض المتشددين).
4) ندرسه [الغرب] كمتتالية حضارية تتسم بما تتسم به من سلبيات وإيجابيات.
وهذا يوصلنا إلى الجابري الذي يرى في الغرب ما رآه المسيري، أي تشكيل حضاري ضمن تشكيلات حضارية أخرى.

ثالثًا: وصية محمد عبد الجابري:
كان لصاحب “نقد العقل العربي” الانطباعات السلبية نفسها على التعليم والساحة الثقافية العربية عمومًا، وله وصايا ينطلق فيها من قناعة مفادها أن “نقد العقل العربي لن يكتمل إلا بإنجاز نقد العقل الأوروبي”. وصية الجابري هذه مبنية على ملاحظته “أن الساحة الثقافية العربية الراهنة التي يتكون فيها العقل العربي المعاصر ساحة غريبة حقًا. إن القضايا الفكرية، السياسية والفلسفية والدينية التي تطرح فيها… إما قضايا فكر الماضي تجتر اجترارًا… وإما قضايا فكر الغرب تجتر هي الأخرى اجترارًا، بعد أن قطعت من أصولها، وأخرجت من ديارها، وأصبحت مشردة، وأحيانًا لقيطة تفتقر إلى الكل الذي يعطيها معناها، وليس هذا الكل شيئًا غير تراث الغرب نفسه”.

وبناءً على ما تقدم ينطلق الجابري إلى وضع الخطوط العريضة لتحقيق النقد المطلوب للعقل الغربي بعد النقد الذي دشنه هو نفسه للعقل العربي-الإسلامي، على أمل أن يأتي من يكمله أو يواصله على النحو الذي قد يحقق التحرر من هيمنة المركزية الغربية. ويحدد الجابري في وصيته ما انتهى إليه أعلام الفكر العربي الإسلامي، ليكون ذاك المنتهى خط الانطلاق إلى النهضة من جديد، وتتمثل قمم المنجز العربي-الإسلامي، من وجهة نظر الجابري، في أربعة؛
• ابن حـزم ومنهجه النقـدي.
• ابن رشد ومنجزه الفلسفي.
• الشاطبي وفقهه المقاصدي.
• ابن خلدون واعتباره التاريخ من علوم الحكمة.

في المأتى سنة بين ابن رشد وابن خلدون قطع الفكر الاسلامي خطوات واسعة إلى الأمام، فالمكتبة توثق، من خلال مقدمة ابن خلدون، ما بين الحكمة والتاريخ من الاتصال، وما بين الحكمة والاقتصاد من الاتصال، وما بين الحكمة والسياسة من الاتصال… وهكذا؛ كانت مقدمة ابن خلدون التقرير الختامي للحضارة الإسلامية، وران الصمت خلال القرون التالية.

وبينما يتحدث المفكر والسياسي الغربي اليوم عن منجزات ابن رشد وابن خلدون، يتوجه المسلم أو يوجه بفعل فاعل إلى الخلف ويسير إلى الوراء، وهو يعتقد أنه ممن يحسنون صنعًا؛ لأن ذاك هو منهج السلف!

إذا كان منهج السلف النظر إلى الخلف، والسير إلى الوراء، لماذا نزعم أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان؟ ألا يصلح الإسلام للحاضر والمستقبل؟ الإجابة لا يمكن أن تكون بلى إلا إذا نظرنا إلى المستقبل وسرنا إلى الأمام. وعندما نتجاوز الفهم الضيق للإسلام سنكتشف أن السلف أنفسهم كانوا مجتهدين ولم يكونوا سلفيين.

وعوضًا عن تكرار قضايا الماضي الميت يقترح الجابري إشكاليات حية ليوصي ببحثها، ومن هذه القضايا: 1) قضايا اللغة وتجديدها. 2) قضايا العقيدة وأنواع الأغلال الملصقة بها. 3) قضايا الشريعة وشروط التجديد فيها. وإمكانيات تطبيقها.

ونظرًا لغياب الاجتهاد المناسب للعصر؛ اكتشف مالك بن نبي قصور الفكر السلفي على الجانب السياسي، بينما اكتشفه السنهوري على الجانب القانوني، وسأتناول الإشكال القانوني أولاً كما رآه السنهوري، ثم أعود إلى ما رآه بن نبي في جانب القصور الفكري، وأثره في المعركة السياسية مع القوى الاستعمارية.

رابعًا: وصية عبد الرازق السنهوري:
الدكتور السنهوري أشهر رجل قانون في البلاد العربية، وكتبه وتلاميذه في كل مكان، لكن ما يمكن أن نعتبره من وصاياه هو ما تركه بيومياته وأوراقه الخاصة، ولا سيما عندما كان طالبًا في فرنسا، ولحسن الحظ جمعت ابنته نادية السنهوري وزوجها توفيق الشاوي أوراق الأستاذ في كتاب عنوانه: “السنهوري من خلال أوراقه الشخصية”.

في هذه الأوراق بث السنهوري الكثير من كوامن نفسه، ومشاريعه التي حلم بها في بواكير القرن العشرين، ولا يخطر على بال أحد أن السنهوري كان شاعرًا وهو طالب في المرحلة الثانوية، وقد صاغ بعض وصاياه في الأبيات التالية:
يا بني الإسلام لا تستسلموا … لـعدو ما رعـى فيكـم ذمامـا
لم يوقـر شيخكم منـذ أتي … في أراضيكم ولم يرحم غلاما
فاستحثوا العـزم حتى تأخذوا… منهم بالثـأر عـدلاً وانتقامًـا
يا بني الإسلام هذا وقتكم … فانهضوا للعز أو موتوا كراما

وفي الثاني من يناير سنة 1922، وكان بفرنسا، كتب السنهوري: “وددت لو خدمت القانون في شيئين: أن أصل في الشريعة الإسلامية حبل الماضي بالحاضر، وأن أضع شرحًا للقانون المصري يشمل الأحوال الشخصية ويسد بعض النقص الذي يشعر به رجال القانون في مصر من عدم وجود مؤلفات كافيه فيه، وددت لو خدمة القضاء في شيء هو أن أجعل من السلطة القضائية مهيمنة على السلطتين الأخريين؛ بعد وضع الضمانات الكافية للقضاء ونزاهته”.

ويذكر المؤلفان للكتاب المذكور: (في الهامش رقم 1 ص 94) أن السنهوري قد حقق هدفه فيما تعلق بالشريعة الإسلامية عندما ألف “مصادر الحق في الشريعة الإسلامية”، وبينما كان السنهوري يجدد الشريعة على ذاك النحو أنجز عبد القادر عودة “التشريع الجنائي في الإسلام”، في سياق الأفكار كان الإسلام يتجدد وكان قطار النهضة الإسلامية ينطلق.

وفي غفلة من الغافلين تسلّم العسكر القيادة، وبدأ السير بالشعب على طريق ثالث ثلاثة علماني: “حرية، اشتراكية، وحدة”. ولهذه الأوثان أو باسمها قدم عودة قربانًا للطاغوت، وسارت مظاهرة إلى مجلس الدولة لتعتدي على السنهوري اعتداءً أدخله المستشفى.

كان الاعتداء على السنهوري في مارس 1954، وفي مايو التالي استشهد السنهوري بأبيات شوقي في رثاء القاضي أحمد أبو الفتوح:
يا أحمد القانون بعدك غامض … قلق البنود مجلل بسواد.
ثم كتب في 31 يوليو 1954 ما نصه: “لا يجوز أن تنزل الرذيلة مسلحة إلى الفضيلة وهي عزلاء، بل يجب حتى تنهزم الرذيلة أن تتسلح الفضيلة”. كانت الرذيلة قد استولت على مصر، باسم الثورة وأصبح ناصر فرعون مصر المعاصر بالفعل.

وانتهي ذاك العام بمسرحية المنشية التي كان عبد الناصر بطلها الأسطوري، وجراءها أعدم عبد القادر عودة، وأربعة من الذين قاتلوا اليهود والإنجليز في فلسطين وعلى قناة السويس. ولم يفطن للعواقب الوخيمة للكارثة التي اسمها عبد الناصر وحقيقة ما يجري في عالم الأفكار إلا مالك بن نبي رحمه الله.

خامسًا: وصية مالك بن نبي:
أوصى مالك بن نبي بخوض حرب التحرير على جبهة الأفكار، وكانت وصيته نتيجة للتطورات القانونية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وإنشاء الأمم المتحدة. بإنشاء الأمم المتحدة أصبحت الحرب فعلاً محرمًا ولا يجوز إلا في حالة واحدة وهي حالة “الدفاع عن النفس”، وبذا أصبحت الفرضية أن السلام هو المبدأ في العلاقات بين الدول وليس الحرب. ولمثل هذا السبب كانت الحرب بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي تسمى الحرب الباردة، لأنها تجري في عالم الأفكار وليس عالم السلاح.

في ضوء هذه التطورات رأى مالك أن القضاء على الاستعمار وتحرير البلدان المستعمرة ومن بينها الجزائر؛ لا بد أن يجري في عالم الأفكار حتى يؤتي أكله، فمن فكر بطريقة المستعمر يظل تابعًا للمستعمر في تفكيره واقتصاده وسياسته. وهذا هو ما شهد به في الواقع الرائد لخضر بورقعة في كتابه “شاهد على اغتيال الثورة”!

يقول سي لخضر بورقعة إن حرب التحرير لم تنتهِ إلا وقد “كلف العدو معاهده ومدارسه بتخريج عدة دفعات أعدت خصيصًا لتضطلع بمهمة تسيير الإدارة والاقتصاد في الجزائر المستقلة..”! ويستمر بورقعة في وصف جوهر القضية بالقول: “هذه المشاريع العدوانية لم نواجها نحن بدورنا بمشاريع وخطط مضادة؛ لأننا كنا دون مستوى المواجهة من جهة، وكنا في موقع الذي غلبته الأحداث على أمره لكثرتها وتشابكها..”

ولما كان الاستعمار خبير في ميدان الصراع الفكري لم تغادر فرنسا الجزائر إلا بعد احتلال العقل الجزائري، الذي سيدير جزائر “ما بعد الاستعمار”. ولما كان الجزائريون دون مستوى المواجهة على جبهة الصراع الفكري، وحيث لم يستمع أحد لوصية بن نبي دع عنك تنفيذها، مازالت الأمة المسلمة وليس الجزائر فقط تعاني الأمرين.

سادسًا: وصية فانون
فرانتس فانون (1925-1961) طبيب نفساني ومفكر سياسي من أبناء المستعمرات الفرنسية (جزر المارتينيك). التحق فانون بالثورة الجزائرية وله عدة كتب، من أشهرها “تعساء الأرض”، وفيه يقول إن الاستعمار قد ترك “بذور العفن” وراءه في البلاد المستعمرة، وعلينا التعرف عليها مخبريًا وتطهير عقولنا منها حتى نحقق استقلالاً جديرًا بهذا الاسم.
وإذا أردت معرفة “بذور العفن” هذه فالمكتبة ستقول لك إنها “الوطنية” و”القومية” و”الاشتراكية” و”العلمانية” وبإمكانك أن تضيف إليها بعضًا من عفن اليوم مثل “النسوية” و”المثلية” اللتين يتم تسويقهما بشراسة وعدوانية منقطعة النظير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى