وعد الله بالنصر لعباده المخلصين
أ. محمد العوامي
قال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (سورة الحج: 40).
يبين الله عز وجل في هذه الآية وعده الصادق بأن ينصر كل من ينصر دينه ويقوم بإعلاء كلمته.
إن هذا الوعد الإلهي جاء بصيغة القسم المؤكد، مما يؤكد حتمية النصر الإلهي لمن ينصر دين الله بإخلاص وإيمان.
إن نصر الله لعباده المخلصين هو حقيقة ثابتة، بغض النظر عن ضعف إمكانياتهم أو قلة عددهم، فقد وعد الله أن يكون معهم بقوته وعزته، فهو القوي الذي لا يُقهر، والعزيز الذي لا يُرام، وقد تكرر هذا الوعد في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (سورة محمد: 7).
“وقوله: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾
يقول تعالى ذكره: وليعيننّ الله من يقاتل في سبيله، لتكون كلمته العليا على عدوّه؛ فنصْر الله عبده: معونته إياه، ونصر العبد ربه: جهاده في سبيله، لتكون كلمته العليا.” ¹
”كل قضية حق نصرتها لله، فقد أقسم الله أن ينصرك فيها، ولو خذلك كل العالم”. ²
يتطلب نصر الله لعباده المخلصين عدة شروط أساسية يجب تحقيقها:
1. النية الخالصة لله: يجب أن يكون هدف المؤمن هو نصر دين الله خالصًا بعيدًا عن الأغراض الشخصية أو القومية أو العصبية. الله يريد من عباده أن يكون جهادهم خالصًا لوجهه الكريم، كما جاء في الحديث عَنْ أَبِي مُوسَى عَبْدِاللهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً؛ أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ». متفق عليه
2. العمل الصالح والإيمان: ينبغي للمؤمنين أن يقوموا بالعمل الصالح ويثبتوا على الإيمان، “والمجتمع بغير دين صحيح, وإيمان قوي, مجتمع متوحش مظلم متألم, وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتلأ بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي, فهو مجتمع البقاء فيه للأقوى, لا للأفضل والأتقى, مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في وجوه أصحابه, وإن زينوا وجوههم بأنواع الأصباغ والمحسنات, وركبوا الطائرات, وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات, فهو مجتمع تافه رخيص هزيل, لأن غايات أهله غايات ساذجة, سطحية هزيلة لا تتجاوز شهوات البطون والفروج, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد: 12].” ³
3. الصبر والتحمل: النصر قد يتأخر لحكمة إلهية، منها اختبار صبر المؤمنين واستعدادهم للتضحية في سبيل الله. يجب على الأمة المؤمنة أن تبذل كل ما في وسعها من قوة وموارد، دون أن تستبقي شيئًا. يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} (سورة البقرة: 214).
وكما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} (سورة النور: 55).عَنْ أَبِي عَبْدِاللهِ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ متَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَينِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، مَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رواه البخاري.
لقد شهد التاريخ الإسلامي مصداقية وعد الله بالنصر لعباده المخلصين. فقد أذل الله جبابرة الأرض وملوكها بأيدي أنصار دينه من الصحابة والتابعين. وقد تحقق هذا الوعد بالرغم من قلة عدد المسلمين وضعف إمكانياتهم في العديد من المواقف، مما يؤكد أن النصر من عند الله وحده. قال ابن كثير في تفسيره: “وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ. هذا وعد من الله لرسوله بأنه سينصره وأتباعه في الدنيا والآخرة” ⁴
قد يتأخر النصر لعدة أسباب، منها:
1. عدم نضج الأمة المؤمنة: قد لا تكون الأمة قد بلغت المستوى المطلوب من النضج والاستعداد لحمل أمانة النصر.
2. اختبار الإخلاص والتضحية: الله يختبر مدى استعداد المؤمنين للتضحية في سبيله، ومدى تجردهم من الأغراض الدنيوية.
3. إرادة الله في تمحيص الصفوف: الله يريد أن ينقي صفوف المؤمنين من المنافقين والضعفاء، ليبقى أهل الإخلاص والتضحية.
قال سيد قطب في تفسيره: “قد يبطئ النصر لأن بنية الأمة المؤمنة لم تنضج بعد نضجها، ولم يتم بعد تمامها، ولم تحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذ لفقدته وشيكا لعدم قدرتها على حمايته طويلا” ⁵
شهد التاريخ الإسلامي أمثلة بارزة تؤكد وعد الله بالنصر لعباده المخلصين.
غزوة بدر الكبرى: مثال على تحقق وعد الله، حيث انتصر المسلمون وهم قلة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ} (سورة آل عمران: 123). كان هذا النصر بسبب إيمانهم وصبرهم واعتمادهم على الله.
غزوة الأحزاب: عندما تحالف الكفار للقضاء على الإسلام، ثبت المسلمون رغم الحصار الشديد، ونصرهم الله بريحٍ أرسلها، كما قال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} (سورة الأحزاب: 25).
نصر الله لعباده ليس مقصورًا على الانتصارات العسكرية، بل يشمل الانتصار على النفس والشهوات، وعلى الظلم والفساد.
الالتزام بشروط النصر مثل الإخلاص، العمل الصالح، والصبر يمكن أن ينعكس في تربية الأبناء، ودعم القضايا العادلة، وتحقيق العدالة في المجتمع.
قد يشعر المؤمنون أحيانًا بأن النصر يتأخر، ولكن وعد الله بالنصر لعباده المخلصين هو وعد صادق وثابت، لا يتخلف. يجب على المؤمنين أن يلتزموا بشروط النصر، وأن يصبروا ويحتسبوا، وأن يخلصوا في جهادهم، ليكونوا مستحقين لنصر الله. وليتذكروا دائمًا أن الله هو القوي العزيز، الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه هو الذي ينصر من ينصره، ويثبت أقدامهم على الحق.
________________
¹ تفسير الطبري.
² د.عبدالله بلقاسم.
³ فقه النصر والتمكين- د. علي الصلابي
⁴ تفسير ابن كثير، تفسير سورة الحج: 40.
⁵ في ظلال القرآن، تفسير سورة الحج: 40.