وقفات مع المرأة الصالحة الصابرة هاجر ومولد إسماعيل (عليه السلام
د. علي محمد الصلابي
بعد إقامة إبراهيم – عليه السّلام – في الأرض المقدسة فلسطين المباركة، وبعد زمن لا يعلمه إلا الله دخل إبراهيم – عليه السّلام – بتدبير منه عزّ وجل إلى أرض مصر، وبما أنه – عليه السّلام – رسول يدعو إلى الله، فكل خطواته وحركاته للدعوة ولتبليغ الرسالة للناس.
وكان من نتيجة هذه الرحلة أن أهديت هاجر إلى سارة زوج إبراهيم – عليه السّلام – والتي أصبحت فيما بعد زوجاً ثانية لإبراهيم، وأمّاً لابنه الكبير إسماعيل – عليه السّلام –
عاد إبراهيم – عليه السّلام – وزوجه سارة من مصر إلى فلسطين، وأقاما فيها معاً مع “هاجر” الجارية، وكانت سارة لا تُنجب ولا تَلد، وقد أخذ العمر بإبراهيم – عليه السّلام – وليس له أولاد، هذا وعزّ عليها أن لا يكون لزوجها أولاد، وبما أنّها عقيم، فلماذا لا تهديه وتهبُه جاريتها هاجر؛ لتكون جارية له، يتسرّى بها ويعاشرها لعلها تحملُ منه. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/381].
ومن الطريف في سيرة هاجر أنّها أحبّت مولاتها وسيدها، ورأت منهما الطهر والنقاء، فاعتنقت دينهما، وآمنت بالله تعالى إيمان المحبّين المخلصين، وكانت هاجر راضية النفس؛ لأن الله تعالى أراد لها الخير وهداها إلى عبادته، وكانت إذا قامت إلى الصلاة نسيت كل شيء من حولها وتعلّق قلبها بالله، ولم تكن هاجر تريد غير المناجاة وغير العبادة وما دار بخلوها أن الله تعالى ما بعث إبراهيم وسارة إلى مصر إلا ليعود بها، فهي الدّرة الغالية في قافلة الإيمان وهي الجوهرة العظيمة التي بارك الله فيها والتي بعدها ليوم عظيم.
كانت سارة وهاجر- عليهما السّلام – متصافيتين، فقد أحبّت كل واحدة منهما الأخرى، وراحتا تجتهدان في عبادة الله تعالى، وحمدت هاجر الله كثيراً أن أخرجها من الظلمات إلى النور وجعلها من بيت مبارك قام على الإيمان وتوحيد الله عزّ وجل وإفراده بالعبادة.
وكما كانت سارة- عليها السّلام – قد علمت دعاء إبراهيم الصادق المخلص {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ}، وتأملت في موقفها وسنين عمرها وبأنها أصبحت عجوز عقيم، وبرقت بارقة أمل في ذهنها وعاشت في صفاء رباني، وقالت في سرور لزوجها إبراهيم – عليه السّلام -: هذه هاجر خذها لعلَّ الله أن يرزقك منها الولد. [الحياة الزوجية في القرآن الكريم، عبد الفتاح أحمد الخطيب، ص220].
وحصل ذلك {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}، وسارت الأيام والشهور وهاجر سعيدة بحملها، ووضعت هاجر طفلاً جميلاً وها هو صوته يملأ الرحب ويشقُّ صمت الكون، وحملت سارة إسماعيل بين يديها برفق وحنان ومحبة وقدمته إلى أبيه، فألقى إبراهيم نظرة الحبِّ على الابن الموعود، فإذا ينابيع الرّقة تنفجر من قلبه المتهلل بالفرح، وإذا به يلثم الوليد ويضمّه في تلك اللحظات المشرقة، قال إبراهيم وسارة وهاجر: الحمد لله رب العالمين، يا ربّ إنّا نعيذ بك ابننا إسماعيل وذريته من الشيطان الرجيم وبدأت حياة زوجية لإبراهيم وهاجر، بدأت حياة جديدة بهذا الطفل إسماعيل الذي غيّر مجرى حياة إبراهيم الزوجية مع هاجر أمه وسارة زوجته، فقد بدأ الطفل إسماعيل يكبر في حين بدأت حكمة الله تتجلى في أن ينقل إبراهيم هاجر وإسماعيل إلى حيث يأمره ربّه، إلى أم القرى، لتعود الحياة إليها، ولتظلّ قائمة إلى أن يشاء الله.
إنَّ بعض المفسرين والمنصفين من أهل العلم أرجع نقل هاجر وإسماعيل إلى مكة بسبب غيرة سارة من جاريتها هاجر، وطلبت من إبراهيم – عليه السّلام – أن يبعدها وأن يغيّبها عنها، ومن هؤلاء العلماء والمنصفين ابن قيم الجوزية، حيث قال في “زاد المعاد”: إنَّ سارة امرأة الخليل غارت من هاجر وابنها أشدّ الغيرة، فإنَّها كانت جارية، فلما ولدت إسماعيل وأحبّه أبوه، اشتدت غيرة سارة، فأمره الله سبحانه أن يبعد عنها هاجر وابنها، ويسكنها في أرض مكة؛ لتبرد عن سارة حرارة الغيرة، وهذا من رأفته ورحمته تعالى.
ونحن نعتقد أن السيدة سارة – عليها السّلام – فوق كل هذا الأمر، فسارة تقيّة نقيّة عابدة نشأت في كنف خليل الرّحمن نشأة الصفاء، وصُنعت على عينه، وتعلّمت شيئاً كثيراً من مكارمه وفضائله؛ ولذا فلا يمكن أن تستحكم الغيرة في قلبها، وتطلب من زوجها أن يبعد طفلاً رضيعاً وأمّه دون سبب، بل إنَّ ذلك يعود إلى أمر الله ومشيئته فهو علّام الغيوب، وفي هاتيك الأيام، أوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن يأخذ هاجر وابنها إلى الأرض المباركة أم القرى، تلك البقعة التي أراد الله أن يبارك فيها للعالمين. [الحياة الزوجية في القرآن الكريم، عبد الفتاح أحمد الخطيب، ص223].
وقد قال الصّاوي: أمره الله تعالى بالوحي أن ينقلها إلى مكة، وأتى بها بالبُراق. وامتثل إبراهيم لأمر ربّه وأنزل هاجر وإسماعيل- عليهما السّلام – حيث أمره. [حاشية الصّاوي على تفسير الجلالين، أحمد الصّاوي المالكي، 2/242].
ولا بُدّ من الحذر من الروايات التي تزعمها الأساطير والإسرائيليات من أن سارة أصبحت تغارُّ غيرة شديدة من هاجر، بعدما أنجبت الأخيرة الولد لإبراهيم، وأن هاجر لم تعد تسطيع رؤية هاجر وابنها فى البيت، وأنها أمرت الخليل إبراهيم بإبعادهما عنها، ووضعهما في مكان بعيد بحيث لا تراهما، فنفّذ إبراهيم أمر سارة، وذهب بهم إلى الحجاز ولا نقول بهذا؛ لأنه لم يَرد في حديث صحيح مرفوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا نقبل في تفاصيل القصص القرآني أي كلام لأي كان، إذا لم يُقدم الدليل على ذلك، إمّا من آية صريحة أو حديث متصل صحيح، ثم إنّ سارة أعظم إيماناً مما صورّها به رواة الإسرائيليات، فهي التي قدمت هاجر لإبراهيم وهي التي رَجت أن يكون له ولد، أمّا وقد جاء الولد أصبحت تريد التخلص منه والقضاء عليه، وأنّها لو فعلت ذلك لكانت ظالمة، وإبراهيم لو ذهب بهاجر وإسماعيل إلى الحجاز لهذا السبب لكان ظالماً، وحاشى لإبراهيم – عليه السّلام – أن يظلم، وزوجته المؤمنة سارة بريئة من ذلك الظلم. [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، (1/385].
ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: “إبراهيم – عليه السلام – أبو الأنبياء والمرسلين”، للدكتور علي محمد الصلابي، واعتمد في كثير من معلوماته على كتاب: ” القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث”، للدكتور صلاح الخالدي.
المراجع:
- إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.
- حاشية الصّاوي على تفسير الجلالين، أحمد الصّاوي المالكي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1995م، (2/242).
- الحياة الزوجية في القرآن الكريم، عبد الفتاح أحمد الخطيب، دار اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 1425هـ، 2004م، ص220.
- القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، دار القلم، دمشق – الدار الشامية، بيروت، ط1، 1419ه، 1998م.