عامقضايامقالاتمقالات الرأي

وماذا بعد أن وضعت الحرب أوزارها؟

د. خالد حنفي

بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، عمت أجواء الفرح والاستبشار بتوقيع هدنة تتوقف بموجبها الحرب على غزة، رغم الجروح والآلام الكبيرة التي خلفتها تلك الحرب على غزة وأهلها، وعلى الأمة المسلمة بأسرها، وعلى أصحاب الفطر السوية والمنتسبين بحق للإنسانية حول العالم.

تنفس الناس الصعداء بعد توقيع الهدنة، لأنهم عاشوا أقسى وأطول حرب في العصر الحديث، وقد استمرت سنة وأربعة أشهر (467 يومًا)، قتل فيها قرابة 50 ألف شهيد، منهم 17 ألف طفل، و12 ألف امرأة، ودمرت 92% من البنية التحتية تشمل 85% من الطرق والجامعات والمدارس والمستشفيات ومحطات المياه والكهرباء حسب إحصاءات البنك الدولي، وأجبرت الحرب أكثر من 2 مليون شخص على النزوح، هم تقريبًا أهل غزة كلها الذين تعرضوا لأبشع حملة تجويع وتشريد مرّ بها شعب في العصر الحديث، تحت سمع العالم وبصره.

وفرح الناس بتوقيع الهدنة يؤكد تشوّف الناس وحبهم للسلام والأمن، وسعيهم للحصول عليه، ولهذا أكد القرآن الكريم على اغتنام أي فرصة أو دعوة للسلام وإيقاف الحرب، فقال تعالى: “وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسلمِ فَاجنَح لَهَا وَتَوَكل عَلَى اللهِ” [الأنفال: 61]. واعتبر القتال شرًا يجب تجنبه ما استطاع المسلمون إليه سبيلًا، وأن من النعمة الكبرى أن يوفقوا لتحقيق مرادهم دون حرب أو قتال؛ قال تعالى ممتنًا على المؤمنين: “وَرَد اللهُ الذِینَ كَفَرُوا۟ بِغَیظِهِم لَم یَنَالُوا خَیرࣰاۚ وَكَفَى اللهُ المُؤمِنِینَ القِتَالَۚ وَكَانَ اللهُ قَوِیًّا عَزِیزࣰا” [الأحزاب: 25].

والمتتبع لآيات القرآن الكريم بعين التفكر والتدبر، يجد أن لفظ السِّلم ومشتقاته ورد 144 مرة، وأن لفظ الحرب وما اشتق منه ورد 6 مرات فقط، وما وقع من حرب على غزة الأبية يؤكد زيف دعوة الغرب للسلام ورفضه للحرب وزعمه أن الإسلام دين العنف والحرب وأنه انتشر بالسيف.

إن أهل غزة علمونا وعلموا العالم معنى أن تعيش لهدف وغاية، وأن تضحي في سبيل المبدأ الذي آمنت به، علموا العالم المعنى الحقيقي لحب الوطن والدفاع عن المقدسات، جسّدوا عمليًا قيمة الصبر والثبات

فقد دعم الغرب الحرب على غزة، وناصر الظالم على حساب المظلوم، وتناقض مع قيمه ومبادئه الحقوقية، التي لطالما نظر لها وأكد عليها وزعم سبقه وتحضره فيها، والمسلمون حول العالم -وفي الغرب بشكل خاص-، بعد توقيع الهدنة وتوقف الحرب، أمام جملة من الواجبات والرسائل، من أهمها:

الثقة في وعد الله وتدبّر آياته وكأنها تتنزل الآن

إنني منذ أن بدأت تلك الحرب الظالمة أتأمل في آيات الله -سبحانه وتعالى – ووعده للمؤمنين، وكيف أن تلك الآيات تتحقق وكأن القرآن يتنزل من جديد، وكيف أجاب الله دعوات المؤمنين الصادقين لأهل غزة بالثبات والتأييد وإيقاف الحرب، وكيف أن هذه الحرب -على قسوتها ومرارتها، وعظم الثمن الذي دفع فيها – قد أيقظت شباب الأمة، وأحيت فيهم قيمًا قد ماتت أو كادت أن تموت، وكيف أنها جددت فيهم الانتماء لأمتهم والدفاع عن قضيتهم، وكيف لفتت أنظار كثير من الأوروبيين إلى عقيدة ودين الإسلام؛ فمنهم من اعتنق الإسلام ومنهم من غيّر نظرته للإسلام وصحح معارفه الخاطئة عنه.

ورأينا إنسانية بعض الأوروبيين وصدقهم في الدفاع عن المظلومين، وتضحيتهم بوظائفهم ورواتبهم وحجب شهاداتهم؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: “كُتِبَ عَلَیكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرهࣱ لكُم وَعَسَى أَن تَكۡرَهُوا۟ شَيئًا وَهُوَ خَیرࣱ لكُم وَعَسَى أَن تُحِبُّوا۟ شَيئًا وَهُوَ شَرࣱّ لكُم وَاللهُ یَعلَمُ وَأَنتُم لَا تَعۡلَمُونَ” [البقرة: 216]، وصدق ربنا حين قال: “لَا تَحسَبُوهُ شَرࣰّا لكُم بَل هُوَ خَیرࣱ لكُم” [النور: 11]. وما زالت صور الخير ومشاهده تتتابع، ونأمل أن تكثر في أمتنا إن شاء الله بعد الحرب في صور الإغاثة والمواساة.

رأينا آيات تأييد الله للمؤمنين المدافعين عن الحق والعدل بأدوات هشة ضعيفة “یأَیُّهَا الذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تَنصُرُوا۟ اللهَ یَنصُرۡكُمۡ وَیُثَبِّت أَقدَامَكُمۡ” [محمد: 7]، ورأينا القلة المؤمنة تحارب العالم بعقيدتها وإيمانها: “كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَت فِئَةࣰ كَثِیرَةَ بِإِذۡنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصابِرِینَ” [البقرة: 249].

ورأينا المنافقين والمعوقين الذين قال الله فيهم: “قَد یَعلَمُ اللهُ المُعَوِّقِینَ مِنكُم وَالقَائِلِینَ لِإِخوَٰنِهِم هَلُم إِلَیۡنَا وَلَا یَأتُونَ البَأسَ إِلا قَلِیلًا” [الأحزاب: 18]، ورأينا “الذِینَ قَالُوا لِإِخوَٰنِهِم وَقَعَدُوا۟ لَوۡ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا” [آل عمران: 168]، ومن لم يفهم هذه الآيات الآن فليراجع قلبه وعلاقته بكتاب الله.

خلفت الحرب أعدادًا هائلة من الأيتام والأرامل الذين يحتاجون إلى الكفالة المستدامة، ومن قصّر أثناء فترة الحرب في الدعم والإغاثة فأمامه الفرصة الآن للاستدراك والتسابق

لقد قدم القرآن الكريم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس في أغلب المواضع كقوله تعالى: “انفِرُوا۟ خِفَافࣰا وَثِقَالࣰا وَجَاهِدُوا۟ بِأَموَالِكُمۡ وَأَنفُسِكُم فِی سَبِیلِ اللهِۚ” [التوبة: 41].

وعن زيد بن خالد الجهني- رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في سبيل الله بخير فقد غزا” [صحيح البخاري]. وعن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه – أن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال: “من لم يغز أو يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة” (أخرجه أبو داود، وابن ماجه).

وقد خلفت الحرب أعدادًا هائلة من الأيتام والأرامل الذين يحتاجون إلى الكفالة المستدامة، ومن قصّر أثناء فترة الحرب في الدعم والإغاثة فأمامه الفرصة الآن للاستدراك والتسابق.

فاحرص على أن تكفل يتيمًا أو ترعى أسرة شردتها الحروب؛ قال صلى الله عليه وسلم: “أنا وَكافلُ اليتيمِ في الجنةِ كَهاتين”، وأشارَ بأصبُعَيْهِ السبابةَ والوسطى [البخاري]. شريطة أن يتم ذلك عبر القنوات الرسمية، وبما لا يتعارض مع النظم والقوانين.

تعلم التضحية والصبر والثبات على المبدأ في العالم المادي

إن أهل غزة علمونا وعلموا العالم معنى أن تعيش لهدف وغاية، وأن تضحي في سبيل المبدأ الذي آمنت به، علموا العالم المعنى الحقيقي لحب الوطن والدفاع عن المقدسات، جسّدوا عمليًا قيمة الصبر والثبات، صوروا لنا قوله تعالى: “الذِینَ إِذَا أَصَابَتهُم مُّصِیبَةࣱ قَالُوۤا إِنا لِلهِ وَإِنا إِلَیۡهِ رَاجِعُونَ 156 أُو۟لَٰۤئِكَ عَلَیۡهِمۡ صَلَوَٰتࣱ مِّن ربِّهِمۡ وَرَحمَةࣱ وَأُو۟لَٰۤئِكَ هُمُ المُهتَدُونَ” [البقرة: 156-157].

إن غزة وضعت الأمة على مفترق طرق بين العزة والكرامة أو الذلة والمهانة، وإن طريق العزة والكرامة محفوف بالمخاطر والأشواك، لكن عاقبته إلى خير ورشاد

هم صبروا واحتسبوا على ما فقدوا من مال وولد؛ فأنزل الله عليهم السكينة والرضا رحمة وسلامًا من عنده، قدموا دروس العقيدة والإيمان بالله والآخرة حية لاهبة؛ فلما آمنوا أن الشهداء: “أَحیَاۤءٌ عِندَ رَبِّهِمۡ یُرزَقُونَ 169 فَرِحِینَ بِمَا ءَاتَىٰهُمُ اللهُ مِن فَضلِهِ وَیَستَبشِرُونَ بِالذِینَ لَمۡ یَلحَقُوا۟ بِهِم مِّن خَلفِهِم أَلا خَوفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ 170 یَستَبشِرُونَ بِنِعمَةࣲ مِّنَ اللهِ وَفَضۡلࣲ وَأَن اللهَ لَا یُضِیعُ أَجرَ المُؤمِنِینَ” [آل عمران: 169-171]، استعذبوا الموت في سبيل الله والمبدأ والغاية، والأمة التي تقدم الشهداء دفاعًا عن العقيدة والدين والوطن هي أمة حية، حضارتها في إقبال وإن بدا ظاهرًا أن الخسارة كبيرة والمفقود لا يعوض.

تعلم قيمة العزة والإباء والكرامة

إن حب الدنيا وكراهية الموت هو الداء الذي أصاب أمتنا اليوم؛ فجعلها على حالها من الضعف والهوان رغم كثرتها العددية، وهو التوصيف النبوي لحال الأمة ومرضها العضال، حين سئل عن سبب تداعي الأمم علينا كما تداعى الأكلة على قصعتها: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟!

وأهل غزة علمونا وعلموا الأمة والعالم معنى أن تعيش كريما عزيزا، ولو في خيمة لا تجد فيها قوتا أو ماء، وتحت القصف لعام وأربعة أشهر، ولو أرادوا الدنيا وزخرفها والمال والترف، لتحقق لهم ما أرادوا لكن في صغار وذلة، والقرآن الكريم يغرس في المسلم خلق العزة والكرامة حتى في أوقات الشدة والفتنة؛ قال تعالى: “وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحزَنُوا۟ وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُّؤمِنِینَ” [آل عمران: 139].

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى