ومضات في موضوع “الحجاب”

✍️د. إدريس أوهنا
أستاذ أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، فاس.
في المقال التالي سأحرر القول فيما يثار من شبهات حول اللباس الشرعي للمرأة المسلمة (الحجاب)، بما يجلي الموضوع، ويزيل الالتباس والغموض، متوخيا في ذلك الاختصار الدقيق غير المخل؛ لأنني أعلم أن الناس اليوم لا يطيقون القراءة مطولا:
أولا: الدلالة؛
الحجاب بين الدلالة اللغوية والدلالة الشرعية والدلالة العرفية:
أ- الدلالة اللغوية:
الحجاب لغة من فعل: حجب، ومعناه: منع أو ستر.. هكذا في جميع معاجم اللغة العربية.
ب- الدلالة الشرعية:
مادة الحجاب وردت في ثمانية مواضع من القرآن الكريم: (حتى توارت بالحجاب) ص/32، (وبينهما حجاب) الأعراف/46، (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) الشورى/51، (كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) المطففين/10، (فاتخذت من دونهم حجابا) مريم/17، (إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) الأحزاب 53، (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يومنون بالآخرة حجابا مستورا) الإسراء/45، (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون) فصلت/5.
واستعمل هذا اللفظ في جميع هذه المواضع بمعناه اللغوي، أي الستر والمنع.. ولم يستعمل اسما لزي المرأة أو لباسها الشرعي.
ولذلك فإن لباس المرأة الشرعي لا يستدل عليه بهذه الآيات، بل دليله في نصوص شرعية أخرى، بالإضافة إلى دليل الإجماع والمقاصد كما سنرى؛ ومتى توفرت في زي المرأة الشروط الشرعية المستفادة من الوحي فهو لباس شرعي، ولا يهم بعد ذلك ما نطلق عليه من الأسماء، لأن العبرة بالمسمى، وشروطه الشرعية، لا بالاسم، والقاعدة تقول: “العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني”.
وعندما غابت عن المغرضين المشككين في فرضية ما يعرف بالحجاب هذه الحقيقة، وهذا التمييز الدقيق بين جوهرية المسمى وشكلية الاسم، وبين شرعية المسمى وعرفية الاسم، طعنوا في الحجاب، وادعوا زورا وبهتانا عدم شرعيته؛ بدعوى مردودة باطلة، وهي أن القرآن الكريم لم يتحدث عن الحجاب بالمعنى المتداول بين الناس، بل تحدث عن الحجاب بمعنى مغاير لا تثبت به حجة. وغاب عن هؤلاء، إن لم يكن ذلك منهم مع سبق الإصرار والترصد، أن أدلة فرضية الحجاب ليست تلك الآيات التي ورد فيها لفظ “الحجاب”، بل أدلة أخرى، لا ينكرها إلا كل مغرض فتان، وسنأتي على ذكرها، بكل اختصار وبيان.
ج- الدلالة العرفية:
“الحجاب” يطلق في عرف الناس اليوم على لباس المرأة المسلمة، المفترض فيه الالتزام بشروطه الشرعية المستفادة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ومقاصد الشريعة الإسلامية السمحة. وإن كانت هذه الدلالة العرفية للحجاب، بما هو لباس للمرأة، غير الاستعمال الشرعي لكلمة: “حجاب” في القرآن الكريم، فإن ذلك لا ينفي ولا يلغي أن المدلول العرفي للحجاب الذي هو: لباس المرأة المتقيد بالشروط الشرعية، هو عين ما دعا إليه الله ورسوله، وهو المساوق لمقاصد الوحي من ستر وحشمة وحياء وعفة وصيانة للعرض… والأدلة على ذلك ما يلي:
ثانيا: الدليل؛
1) الدليل من القرآن:
وأقتصر توخيا للإيجاز، وتخفيفا على القارئ، على نصين اثنين أراهما كافيين شافيين لمن أراد اتباع الحق لا الهوى:
1.1. قوله سبحانه وتعالى: ﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [سورة النور آية 31]
الآية الكريمة نهت المؤمنات عن إبداء زينتهن، واستثنت الزينة الظاهرة، فما هي الزينة الظاهرة التي يجوز للمرأة إظهارها؟
فسر الصحابة والتابعون ومَن بعدهم من الفقهاء والأئمة المجتهدين من سائر المذاهب الفقهية السنية الزينة الظاهرة التي يجوز للمرأة إبداؤها بالوجه والكفين، قالت السيدة عائشة والصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إلا ما ظهر منها: الوجه والكفان.
ومن خالف في تفاصيل الزينة الظاهرة زاد على ذلك الحد، ولم ينقل عن صحابي أو تابعي أو عالم من علماء الأمة أنه نقص عن ذلك الحد.
ثم جاء الأمر الإلهي في الآية للنساء المؤمنات بضرب الخمُر على الجيوب، والخمُر: جمع خِمَار، وخمار المرأة في لغة العرب هو ما تغطي به المرأة رأسها، هكذا في سائر معاجم اللغة العربية ؛
فكيف يطلع علينا في هذا الزمان من يقول إن الخمار هو غطاء لمنتصف المرأة لا لرأسها !! كفى به كذبا !!
إذن فالأمر بضرب الخمر على الجيوب، هو أمر صريح بستر الشعر والعنق والنحر. لأن النساء قبل نزول هذه الآية كن على ما كانت عليه نساء الجاهلية من وضع الخمار على الرأس وسدله إلى الخلف، وترك الأعناق وجيوب الصدر عارية .وعن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الآية: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) أخذن أُزُرَهن فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. رواه البخاري.
ومما يعلمه الصغير قبل الكبير من المسلمين أن المرأة مطالبة وجوبا بتغطية رأسها وشعرها في الصلاة، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ” لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار”، وفيه دلالة واضحة على أن رأس المرأة وشعرها عورة، ومن شروط الصلاة: ستر العورة،
والعورة لا يجوز كشفها لا داخل الصلاة ولا خارجها.
ثم جاء قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا…) واستثنى الله تعالى المحارم، وزينة المرأة كل جسدها ماعدا الوجه والكفين كما بينا، وكما سيأتي.
2.1. (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) النور/12
رخص الله تعالى للقواعد من النساء وهن العجائز اللاتي لا يرجون نكاحا، في أن يضعن بعض ثيابهن من غير تبرج أو إظهار لزينة، وموطن الشاهد هاهنا: إذا كانت المرأة العجوز مأمورة شرعا بعدم التبرج بزينة، فمن باب أولى وأحرى أن تكون المرأة الشابة مأمورة بذلك، أي بستر مفاتنها، لأن التبرج يفضي إلى الفتنة بالمتبرجة ولو كانت عجوزا، فكيف يكون الحال بالشابة أو الجميلة إذا تبرجت؛ فلا شك أن إثمها أعظم، ووزرها أكبر، وفتنتها أشد، ولا يخفى ذلك على عاقل.
2) الدليل من السنة:
وأما الدليل من السنة، فجميع الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، ومنها:
عن صفية بنت شيبة أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول: لما نزلت هذه الآية وليضربن بخمرهن على جيوبهن أخذن أُزُرَهن (نوع من الثياب) فشققنها من قبل الحواشي فاختمرن بها. رواه البخاري (4481). وأحاديث أخرى صحيحة، يستفاد منها جميعها وجوب ستر جسد المرأة، على اختلاف بين العلماء في جواز إظهار الوجه والكفين من عدم جوازه بناء على ما ورد في الأحاديث، مما يحتمل هذا وذاك، ولا نجد في السنة ولا في أقوال شارحيها من العلماء قديما وحديثا ما يجيز إظهار ما زاد عن الوجه والكفين، إلا القدمين فقد أجاز فقهاء الحنفية كشفهما، على خلاف ما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة في وجوب سترهما كذلك.
3) – دليل الإجماع:
لقد أجمع العلماء المشهود لهم بالتقوى والورع والرسوخ في العلم، من عهد الصحابة رضوان الله عليهم، فالتابعين، إلى يومنا هذا على أنه من الواجب على المرأة المسلمة أن ترتدي اللباس الشرعي الساتر لزينة جسدها، صونا لها، ودرءا لفتنتها التي قال عنها من لا ينطق عن الهوى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام: “ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء” – متفق عليه -، وصدق من قال:
كل الذنوب مبداها من النظر ** ومعظم النار من مستصغر الشرر.
وليس أمر “الحجاب” بمستحدث كما يدعي بعض الجهلة من عبدة الأهواء، ومروجي الشبهات، بل هو مما تلقته الأمة بالقبول في جميع الأعصار والأمصار من غير إنكار، حتى صار عند عامة المسلمين لا العلماء فقط، من المعلوم من الدين بالضرورة، ولم يتجرأ أحد على تكذيبه والطعن فيه إلا بعد مرحلة الاستعمار الغربي للبلاد الإسلامية، حينئذ ظهر من يدعو جهارا نهارا لسفور المرأة ونزعها للباسها الشرعي المسمى بالحجاب، ومن هؤلاء من تونس الطاهر الحداد، ومن لبنان نظيرة زين الدين، وغيرهما من المفتونين بالحضارة الغربية وثقافتها المادية.. لكن لهؤلاء نقول: لا يصح إلا الصحيح.. وإن شبهاتكم ما هي إلا (كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب)النور/39.
4) الدليل من مقاصد الشريعة السمحة:
– لباس المرأة الشرعي المسمى في عرف الناس بالحجاب ليس مقصودا به التقليل من شأن المرأة، وإنما تكريمها، وبقاؤها جوهرة مصونة عن عبث العابثين، واستغلال الذئاب المجرمين، من طلاب المتع المحرمة وما أكثرهم في زمننا.
– من المقاصد كذلك، عدم اختزال المرأة في جسدها والنظر إليها على أنها مجرد متاع للرجل لا غير، وأنها أداة لإشباع الرغبات والأهواء الجنسية، ثم تهمل وتلقى بعد استنفاذ أغراضها تلك، من غير احترام وتقدير لها بصفتها إنسانا له أبعاد متعددة، من الجرم والظلم اختزالها في البعد الواحد.
– المرأة الملتزمة بلباسها الشرعي المسمى بالحجاب، أبعد عن الاعتداء والتحرش بالمقارنة مع المتبرجة السافرة العارضة للمفاتن؛ قال تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين) الأحزاب/59، كما أنها أبعد من إثارة غرائز الرجال وفتنتهم.
ولا يقال إن المرأة إذا أمنت الأذى، فلا داعي لارتداء اللباس الشرعي، فهذا مجرد افتراض جدلي غير واقعي، لأن المرأة متى عرضت زينتها وتبرجت بها لا بد أن ينتج عن ذلك أذى شخصي واجتماعي، ومن حذرنا أعلم بنا منا: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك/14.
– ثم إن ما يطلق عليه الحجاب، ليس مجرد شكل ومظهر اجتماعي، وليس مجرد(قماش) كما يقول دعاة الإباحية باسم الحرية، بل ليس مجرد وسيلة للضبط الغرائزي وتجنب الفتنة، والدعوة إلى التزام الحياء والعفة فقط، بقدر ما هو عبادة وطاعة لله تعالى، وما ينبغي أن يغيب هذا البعد العقائدي الإيماني التعبدي عن المرأة المسلمة وهي تستجيب لنداء دينها بارتداء اللباس الشرعي الساتر، فقد أمرت به في سورة النور بوصف “المؤمنة”، وما أجمله من وصف !! قال تعالى: (قل للمومنين والمومنات)، أما من لا إيمان له، أو كان إيمانه ضعيفا مهتزا لا يصمد أمام أول شبهة أو صيحة، فلا مطمع في تجاوبه وامتثاله وإذعانه لأمر ربه.
5) وجوب الإذعان والاستسلام لأمر الله ورسوله:
قال الله تعالى: (وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) الأحزاب/36
وقال: (فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء/65
6) إذا كان الموت حقيقة حتمية، والأجل لا مفر منه، فلتضعي
– أختي- على نفسك هذا السؤال:
ما هو الحال إذا حل الأجل وأنا على هذا الحال من التبرج والسفور؟؟
أنصتي أختي لنداء الفطرة، واستجيبي لأمر ربك، ولا تكوني لقمة سائغة لكل ناعق فتان !!
اللهم اجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين، ولا فاتنين ولا مفتونين.