(وين حوش بو سعدية)

أ. عبد الله الشلماني
[مذكرات راقد ريح]“هانَت” .. قلتها بيني و بين نفسي وأنا في طابور المصرف لاستلام الألف دينار من مرتبي الشهري و التي خصصها السيد مدير المصرف سقفاً أعلى للسيولة المسحوبة من كل حساب .. فعلاً “هانَت” .. حيث لم يعد بيني و بين الصرّاف سوى 12 شخصاً “فقط” فيما يمتد الطابور ورائي إلى ما لا نهاية ! .. غير أن الطابور مع الأسف كان يتحرك بسرعة الحلزون .. من الواضح أن الصرّاف لم يواجه يوماً أزمة سيولة مثلنا و إلا لكان أكثر نشاطاً و استعجالاً .. “الشبعان ايفتّ للجيعان فتاً بطي” .. فهو يتعامل ببطء شديد مع كل صك ممازحاً أحد زملائه تارةً، و متحدثاً في هاتفه النقال تارةً أخرى مما يُبطيء من حركة طابورنا .. إنه يبدو سعيداً .. “عطاك الله” أيها الصرّاف أنت ومديرك وبقية موظفي المصرف .. “يا عوينكم” .. حيث لم يحدث أنني رأيت أحداً منكم في يوم من الأيام واقفاً أمام محلات الذهب و المجوهرات و محلات تجارة العملة مثلنا نحن “راقدين الريح” ليدفع لهم “إتاوة” قد تصل أحياناً إلى 15% من مرتبه حتى يحولوا له ما تبقي من مرتبه بعد خصم “الإتاوة” .. لقد سمعت صباح الأمس من أحد روّاد “الكوشة” حيث طابور آخر من طوابير حياتنا اليومية التي لا نهاية لطوابيرها بأن موظفي المصرف أو بعضهم على الأقل “أستغفر الله و العهدة على الراوي” يتقاسمون الإتاوات مع أصحاب محلات العملة و المجوهرات في مقابل توفير السيولة لهم .. أستغفر الله يا ربي ..
صوتٌ يعلو خلفنا صارخاً عند باب المصرف صادراً عن أحد عساكر الشرطة ممن ينظمون الطابور : “تنظموا يا بشر” .. يا رب سترك .. ليس هذا وقت مشاجرة قد يتعكر بسببها مزاج موظفي المصرف فيوقفوا العمل بحجة “عطل في المنظومة” .. “يا ربي أنا دخيلتك” فاللقمة تكاد تصل الفم ..
يعلو الصراخ مجدداً :” تنظموا يا بني آدم أنت وياه” .. ثم تبداً المعركة .. صفعات .. و لكمات .. و ركلات .. و سِباب .. و شتائم .. كل ذلك بين الشرطي و أحد الواقفين .. ليقع أخيراً ما كنتُ أخشاه .. تعطلت المنظومة !!..
استدرنا جميعاً بنفس الترتيب و قد أظلمت الدنيا في أعيننا نحن أهل الطابور متجهين نحو الباب .. ثم من الباب إلى محلات الصِرافة و المجوهرات .. في هذه اللحظة بالذات تذكرت لعبتنا التي كنا نلعبها أطفالاً حين كنا نسير في طابور طويل مثل طابورنا هذا يمسك كل منا بطرف قميص الطفل الذي أمامه ونحن نُنشِد مبتهجين :”وين حوش بوسعديّة .. قدِّم لاقِدام شويّة” ..
لكن بوسعدية اليوم ليس هو بوسعدية الأمس الذي كان يُبهجنا .. بوسعدية اليوم هو صاحب محل الصِرافة الذي يسطو على لقمة أولادنا فيقتطع منها ما يحلو له أن يقتطع ..
و الآن أنا في الطريق إلى حوش بوسعدية .. “يا ربي تعطيه بليّة” ..