أحكام يوم عاشوراء
بقلم :الدكتور منير جمعة
الأستاذ بجامعة أم القرى سابقا
#################
هلاك الظالمين نعمة كبرى ومنة عظمى، قال تعالى،{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]، فقرن حمده تعالى بسبب ظاهر -وهو المستحق للحمد في كل حين- يتمثل في إهلاكه سبحانه للظالمين وقطعه لدابرهم، وفي ذلك من الإنعام والرحمة بالمؤمنين ما لا يخفى.
ذكرى عاشوراء
من هنا استحق يوم عاشوراء أن يكون واحدًا من أعظم أيام التاريخ، فقد هلك فيه الرمز الأكبر للظلم والطغيان في الأرض على مر العصور، وهو فرعون حاكم مصر في عهد موسى عليه السلام، على غير توقع، وبغير تكافؤ في موازين القوى –آنذاك- بين أهل الحق وأهل الباطل، لكن الله -جلت قدرته- فعال لما يريد.
وقد سمى يوم العاشر من المحرم باسم عاشوراء، تعظيما له، وهو اسم إسلامي خالص لم تعرفه العرب في الجاهلية، مع أنهم ربما ورثوا تعظيمه من ديانة إبراهيم عليه السلام.
وقد أمر الله عز وجل نبيه موسى عليه السلام بأن يذكر بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وأعظمها إهلاك فرعون فقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5]، قال القرطبي في تفسيره (9/341): “أي بما أنعم الله عليهم من النجاة من فرعون ومن التيه إلى سائر النعم، وقد تُسمى النعم الأيام، ومنه قول عمرو بن كلثوم: وأيام لنا غرٌ طوال”.
وقد شاءت إرادة الله أن يكون استشهاد الحسين رضي الله عنه في موقعة كربلاء الشهيرة في شهر الله المحرم، بل في اليوم العاشر منه أيضا، ليكون للشيعة -الذين يظنون أنفسهم حملة راية الحسين دون بقية المسلمين- شأن مع هذا اليوم، ليس لغيره من بقية الأيام!
فضل عاشوراء
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال: “ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما، يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم -يعني عاشوراء- وهذا الشهر -يعني رمضان”.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم في صيامه لعاشوراء قد عَبَرَ مراحل:
المرحلة الأولى:
أن الله ألهمه -كما ألهم قريشًا- أن يصوم، دون أن يذكر فضلا أو يشير إلى سبب، ولعله صلى الله عليه وسلم لم يكن قد علم فضل هذا اليوم بعد، لكن أراد الحفاظ على بعض ما تبقى من صحيح ملة إبراهيم عليه السلام فقد جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “كان عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه”.
المرحلة الثانية:
لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ورأى صيام أهل الكتاب له، صامه، وأمر الناس بصيامه أيضا، ولم يكتف بصيامه وحده كما كان يفعل في مكة؛ لأنه علم العلة من تعظيم هذا اليوم، ومن بقاء ذكره عبر الدهور والعصور، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما هذا اليوم الذي تصومونه؟” قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكرا لله، فنحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فنحن أحق وأولى بموسى منكم”، فصامه، وأمر بصيامه.
وقد اختلف الفقهاء رضي الله عنهم: هل كان صوم عاشوراء -قبل فرض شهر رمضان- واجبا أم كان سنة مؤكدة؟
فذهب أبو حنيفة وأحمد -كما هو ظاهر كلامه- إلى الوجوب، ومال الشافعي إلى أنه كان سنة مؤكدة فقط، ومما يؤيد القول بالوجوب –آنئذ- تشديد النبي صلى الله عليه وسلم في أمره، واهتمام الصحابة به إلى حد أنهم كانوا يصوِّمون أطفالهم، فقد جاء في الصحيحين عن الربيع بنت معوذ قالت: “أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: “من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه”، فكنا بعد ذلك نصومه ونصوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها، حتى يكون عند الإفطار”، وفي رواية: “فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتموا صومهم”.
وعلى أية حال، فإن هذه المرحلة قد انتهت سريعا، بعد أن فرض صيام رمضان في السنة الثانية للهجرة، بما يعني أن وجوب صيام عاشوراء -عند من قال بالوجوب- لم يستمر سوى عامين فقط.
المرحلة الثالثة:
ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بصيام عاشوراء بعد أن فرض عليه رمضان، وترك التأكيد فيه، ولم يترك استحبابه، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: “صام النبي صلى الله عليه وسلم عاشوراء وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك ذلك”, وأكثر العلماء على استحباب صيام يوم عاشوراء، لما جاء في صحيح مسلم عن أبي قتادة: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء، فقال: “أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله”، ولما خرجه الإمام أحمد والنسائي من حديث حفصة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم: “لم يدع صيام يوم عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر”. والحديث في سنده أبو إسحاق الأشجعي الكوفي وهو مقبول كما في التقريب (2/390) وسنده صحيح.
وقد مر بنا حديث ابن عباس: “ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم -يعني عاشوراء” والشاهد فيه أن ابن عباس إنما صحب النبي صلى الله عليه وسلم وعقل عنه في آخر أمره كما هو معلوم.
المرحلة الرابعة:
عزم النبي صلى الله عليه وسلم على صيام يوم آخر مع عاشوراء مخالفة لأهل الكتاب، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “حين صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله: إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع”، قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
ولذلك فإن الجمع في الصيام بين يومي التاسع والعاشر مستحب، وهو رأي كثير من السلف، وإن كان صيام عاشوراء فقط لا شيء فيه، فإن بعض السلف يرى أن السنة ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ما كان ينوى فعله، ونحن نرى أن العلة هنا واضحة، ولذا نرجح سنية الجمع بين اليومين في الصوم. وأما تعظيم النصارى ليوم عاشوراء فغير معروف لنا الآن، ولعله كان في زمن السلف رضي الله عنهم فإنهم يشتركون مع اليهود في الإيمان بالتوراة.