أ. محمد خليفة نصر
*مفكر ليبي
العقل العربي يتعامل مع الألفاظ أكثر مما يتعامل مع المفاهيم”! هذا هو وصف العقل الذي نفكر به في تقرير أو تقدير ناقد العقل العربي، محمد عابد الجابري. وتجاوزًا لهذا القصور سأتحدث عن مفهوم الطاغوت بداية ثم عن تحكمه أو الحكم باسمه بعد ذلك.
أولاً. مفهوم الطاغوت وأنواعه.
من اللافت للنظر ورود مصطلح الطاغوت في صيغة المذكر والمؤنث والمفرد والجمع، في ثمانية مواقع من القرآن الكريم. لكل ما سبق لا بد من تبيان أنواع الطاغوت حسبما جاء في كتاب الله (فقرة أ)، ثم تحديد مفهوم الطاغوت انطلاقًا مما ورد من آيات بالخصوص (فقرة ب).
أ- أنواع الطاغوت. ورد ذكر مصطلح الطاغوت في القرآن الكريم بصيغ مختلفة، منها المذكر والمؤنث، ومنها المفرد والجمع، وعلى النحو الآتي؛
• في سورة البقرة: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت (جمع)،
• في سورة النساء: يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به (مفرد مذكر)،
• في سورة الزمر: والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها (مفرد مؤنث)،
• ويقتضي الحال القول إن الطاغوت كما يكون شيئًا أو شخصًا، يمكن أن يكون فكرة مجردة أو نظرية سياسية من نوع “نظرية الدولة”.
ب- مفهوم الطاغوت. كل ما عُبد من دون الله سواء بجعله إله مع الله أو التوجه إليه بعبادة من العبادات يسمى طاغوت: اليهود الذين عبدو العجل عبدوا الطاغوت، واليهود الذين سجدوا لأصنام قريش عبدوا الطاغوت، والعرب الذي حجوا إلى غير بيت الله عبدوا الطاغوت. الشيطان سواء كان من الإنس أو الجن طاغوت، والساحر طاغوت، وسدنة الأصنام وكهان المعابد وما عبدوا طواغيت.
ولما كانت الأصنام طواغيت؛ أرى من المناسب للربط بين عالم الطواغيت الحجرية القديمة والطواغيت النظرية، الحديثة والمعاصرة، الاستشهاد بقول
نيتشه “الأصنام أكثر مما يظهر في واقع العالم”!
There are more idols than realities in the world.
الخلاصة: الطاغوت يمكن أن يكون شخصًا أو شيئًا أو فكرةً، لكن طاغوت الأفكار مما لا يخطر على بال الغافل، ويستحق وقفة على التحول الذي حدث مع الثورة الفرنسية (سنة 1789) التي دشنت لحظة الحداثة، إذ بدأ مع الثورة الفرنسية التحول من طغيان الأشياء والأشخاص إلى طغيان الأفكار المجردة (ومنها “الثورة”).
كان الطغيان من مبررات الثورة على الملكية في فرنسا؛ وفي هذا السياق يقع ما كتبه بعض مفكري الارهاصات الثورية قبل اندلاع الثورة، إذ كتب (سنة 1778) الكونت دو بوات-نانسي إلى لويس السادس عشر رسالة يقول فيها: “هل تعتقد أن حكم الله لم يشرع لك؟ أم أنك أكثر من إنسان حتى يعود كل شيء إلى مجدك ويتوقف على رضاك؟ من أنت إذن؟ لأنك إن لم تكن إلهًا فأنت غول”!
وبالإمكان استبدال عبارة ” طاغوت” بعبارة “غول” Monstre في الرسالة بكل سهولة، لأن للموضوع علاقة بالطغيان كمبرر للثورة التي اندلعت بعد عقد من كتابة هذه الرسالة. وكانت تلك الجملة في حينها على كل لسان لتبرير الثورة وما يقوم به الثوار.
غير أن ما قادت إليه تلك الثورة في النهاية هو المزيد من الرعب والدماء، واستبدل الطاغوت القديم وهو “الملك” بطاغوت حديث أو حداثي اسمه “الثورة”، التي كانت مصدرًا جديدًا لمشروعية الإرهاب الثوري، وطاغوت جديد يتم باسمه القتل والسحل!
وبدل “مات المالك … عاش الملك” استُحدث مشروع “اقتلوا الملك ليحيا الوطن”! وبذا كان الطاغية السابق (لويس السادس عشر) أول قربان يقدم للصنم الجديد (الوطن) بناءً على توصية من سان جوست، وهو محامي من قادة الثورة.
ثانيًا. حكـم الطـاغـوت والحكم باسمه.
الدولة والثورة أفكار ونظريات يتم القتل باسمهما والموت في سبيلهما. هذا السياق يستدعي تمهيد موضوعه الفرق بين موقف الحضارة البائدة وموقف الحضارة السائدة من الطغيان. الحضارة البائدة هي الحضارة الإسلامية التي قامت على الجمع بين الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. والحضارة السائدة هي الحضارة الأوربية-الغربية، القائمة على حكم الطاغوت والتحُكم باسمه، مع الإيمان بالله أو بدونه!
الحضارة الغربية هي التي بنت النظام العالمي الحالي، ولذا استحقت وصف الحضارة السائدة. هذه الحضارة تتحكم في العالم بشكل يجعل ممارساتها الطاغوتية (السلب والنهب والقتل) ممارسة يومية يدفع المستضعفون ثمنهاــــ هذا هو حكم الطاغوت.
أ- تاريخية حكم الطـاغـوت.
للحضارة الغربية تاريخ طويل في إخفاء الطاغوت والاختفاء وراءه؛ فمثلما زعم الاسكندر في غزوه لمصر أنه قادم لتحرير المصريين من الفرس سنة 332 ق م، زعم نابليون أنه جاء لتحريرهم من المماليك سنة 1798م. ومثلما ذهب الاسكندر لمعبد سيوة حتى يُعلن أنه ابن للإله آمون ذهب نابليون إلى الأزهر معلنًا أنه وجيشه من المسلمين. ولم يكن للإسكندر ومن بعده نابليون من غرض سوى حكم مصر والتحكم فيها.
الطاغوت في جوهره عبادة الإنسان لهواه أو للشيطان، دون إدراك لذلك أو دون تصريح به. وقد لا تتجاوز عبادة الطاغوت تقليد الأباء والاجداد وتفضيل الموت في سبيل الطاغوت على الموت في سبيل الله. والقضية لا تتوقف عند الموت في سبيل الطاغوت وإنما تمتد إلى القتل باسمه وكما سنرى بعد قليل.
لا قيمة لقول فرعون “أنا ربكم الأعلى” إذا كان الاتّباع لموسى، ولا قيمة لألوهية فرعون إن كانت الطاعة لغيره. ولم يكن لويس الخامس عشر بعيدًا عن فرعون عندما قال: “في شخصي فقط تكمن السيادة… ومني وحدي تستمد محاكمي وجودها وسلطتها… ولي وحدي تعود السلطة التشريعية بدون قيد… والنظام العام بأسره ينبثق مني…”! ويكفي لتبيان جدية هذه المزاعم أن القوانين الملكية كانت تذيل بعبارة الملك: “لأن هذه هي رغبتنا”.
لا غرابة في هذا السياق أن يسمى وكيل النيابة “وكيل الملك”، أو أن يجلس القاضي للقضاء باسم الملك، بل كانت الأحكام تصدر وتنفذ باسم الملك. وكانت “الصيغة التنفيذية” التي توضع على الأحكام تبدأ بعبارة “باسم الملك”! هذا هو الطغيان الذي ثار عليه الفرنسيون ومارسوا في مواجهته ارهابًا دمويًا أصبح سنة فرنسية يتبعها العالم ويطبقها باسم إله جديد اسمه “الثورة”!
هذا الإله يأذن بما لا يأذن به الله (سفك الدماء وسلب الأموال). ومما يغفل عنه الناس أن الطغيان لم ينته بالثورة الفرنسية ذات المبادئ الخدّاعة، لأن فرنسا التي تحولت جمهورية ديمقراطية في فرنسا ظلت طغيانية طاغوتية في المستعمرات.
ب- الحكم باسم الطاغوت.
“الكفر بالطاغوت” هو الفكرة الثورية في الإسلام، وهذا الكفر هو اساس القوة التي اطاحت بطواغيت الجاهلية وامبراطوريتي فارس والروم في نفس الوقت. وفي غفلة عن هذه الحقيقة مازال الكثير من أبناء المسلمين يحتكمون إلى الطاغوت ويحكمون باسمه.
في الحضارة الإسلامية (البائدة) البدء في كل أمر باسم الله والانتهاء في كل الأمور بحمده وتسبيحه. وفي غير الحضارة الإسلامية تبدأ الأمور “باسم المسيح” أو “باسم الملك” أو “باسم الشعب” أو “باسم الأمة” أو “باسم الثورة”. وفي مثلها يقول جل وعلى “إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم”! حكم الطاغوت والحكم باسمه شيء واحد، والحكم باسم الطاغوت وعبادته شيء واحد. ويعطي حكم الطاغوت والتحكم باسمه نتيجة واحدة هي الطغيان!
وقد لا يخطر على بال القاضي وهو يحكم “باسم الشعب” أنه يحكم باسم الطاغوت. وعندما تجلس محكمة أمن الدولة لتحكم على أبناء الحركة الإسلامية بالإعدام لا يخطر على بال قضاتها أن الأمن الذي يجلسون للحكم باسمه وحمايةً له هو “أمن الطاغوت”! والقول الفصل في احكام أمن الدولة إنها ليست عنوانًا للعدل، بل عنوانًا للظلم: عنوانًا لتحكم الطاغوت والحكم باسمه.
وتوصف هذه المحاكم وأحكامها بالمحاكمات السياسية، وهي في الواقع طغيانية-طاغوتية، وتسمى سياسية للتخفيف من هول الصدمة التي قد تنبه الغافل إذا سميت باسمها القرآني. محكمة أمن الطاغوت هي المحكمة التي حكمت بأن يُحرق إبراهيم عليه السلام حيًا، وهي التي حكمت بأن يلقى أصحاب الاخدود في النار، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد!