عاممقالاتمقالات الرأيمقالات تربوية

*{وإذ يُريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا، ويُقَلِّلُكم في أعينهم}*

أ.محمد إلهامي..

*{وإذ يُريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا، ويُقَلِّلُكم في أعينهم}*

هكذا وصف ربنا تبارك وتعالى تدخله في غزوة بدر لينصر المؤمنين.. جعل كلا الفريقين يظن أن النصر على الآخر محتمل، عبر هذه الرؤية .. كل فريق يرى الآخر قليلا.. وإذن النصر مضمون.. فلنقاتل

وتأمل في بقية الآية *{ليقضي الله أمرًا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور}*

ولئن سألتني عن شيء تعلمته من طول مطالعة التاريخ ومن طول معاشرة الباحثين والأكاديميين، لذكرت لك شيئا صادما.. فإن من أظهر ما أنا منه على يقين الآن أن الذين يغيرون العالم هم أصحاب الحسابات الخاطئة!!
الذين يمتلكون الرؤية الصحيحة، ويحسبونها بدقة، غالبا ما لا يتحركون من مكانهم.. بل ينتظرون ويطول انتظارهم ويحسبون وتطول حساباتهم، ويظنون أنفسهم ممن يُعدّون ويموتون قبل أن يكتمل إعدادهم.

وأنا الآن لا أكلمك في فضائل العشوائية ولا أذم لك التخطيط ولا أحقر لك من عمل البحث والباحثين، ولا أمدح لك المندفعين بلا رؤية ولا تخطيط.. إنما ألفت نظرك إلى ظاهرة واقعة في حياتنا.. فتأمل معي فيها قبل أن تهجم على الكلام أو تهاجم صاحبه.

وأول الكلام أن البطولة والبسالة والفداء والتضحية هو عمل ضد الحسابات.. لو كان المرء لا يصارع إلا من يضمن أنه يغلبه، لما كان هذا بطلا ولا كانت هذه بطولة.. ولو كان يستفيد شيئا من تضحيته لما سُمِّيت تضحية ولا فداء!!

البطولة نفسها عمل يناقض الحساب المنطقي الرياضي البارد!!.. ولو كان يوافقه لما كانت بطولة، بل كانت فرصة…
وكان الناس كلهم أبطالا.

وقديما قال المتنبي: لولا المشقة ساد الناس كلهم.. الجود يُفقر والإقدام قتال

وما كان لعنترة أن يفخر لحبيبته ولا أن يقول: يُخبرك من شهد الوقيعة أنني.. أغشى الوغى وأعفّ عند المغنم

والثورات التي قامت في العالمين إنما قام بها أناس سكن في خاطرهم أن هزيمة النظام ممكنة وأن بطشه يمكن أن يحتمل.

وحروب التحرير التي أسقطت الإمبراطوريات العظيمة بدأها أناس لا تسعفهم الحسابات بشيء، ولكن يسعفهم يقين أنهم يمكن أن ينتصروا!!

وفي الناس من يقوم بالواجب لأنه الواجب، لا يفكر في الممكن ولا في المتاح ولا في الاحتمالية.. بل يمضي على طريق الشهادة في سبيل الله، يسعفه إيمانه ويقينه ورغبته في الآخرة.. فهذا أخطر الأنواع كلها لأن حساباته ليست من جنس حسابات هذا العالم.

هذا النوع من الناس وصفه النبي بسيد الشهداء.. مع أنها بحسبة الناس في الدنيا: عملية انتحارية تماما!!

وبمثل هذا النوع تتغير موازين القوى، لأنهم يشعلون المعركة التي تقتحم على الفراعين عرش استقرارهم واطمئنانهم وتجعلهم في كل لحظة خائفين مرعوبين!!

وكل فرعون يرى في كل مولودٍ موسى وفي كل عصا حية تسعى

وهذا أبو إبراهيم رحمه الله وتقبله، ونحن الآن في ذكراه…

قبل الطوفان بكثير قال لى أحدهم، ولم يكن موافقا لأبي إبراهيم ولا كان يحبه، إن هذا رجل دخل السجن وقد كان معه مسدس يظن أنه بهذا المسدس يستطيع تحرير فلسطين.. فكيف سيفعل وقد خرج من السجن فوجد أكداسا من الصواريخ والأسلحة وما لم يكن يتخيله ولا يحلم به؟!

وتلك مقولة صادقة تماما.. ولقد نُقل لي أن أبا إبراهيم قال في أيام خروجه الأولى معاتبا إخوانه: لماذا لم تحرروا فلسطين حتى الآن؟!

نفسية هذا الرجل هي التي تقلب الموازين حقا.. ذلك الذي يرى عدوه “قليلا”، يُمكن هزيمته.. فإنه يتجاسر عليه!!

ولست الآن في وارد تقييم قرار الطوفان، هل كان صحيحا أم خاطئا.. هذا موضوع آخر وله نقاش آخر، لكني الآن أتكلم في شيء آخر)

من يرى عدوه قليلا هو الذي يتجرأ عليه…
قد ينجح وقد يُخفق!!
وإذا نجح قيلت فيه أوصاف البطولة والسبق والذكاء وبُعد النظر…
وإذا أخفق عادوا عليه بأوصاف التهور والاندفاع والجنون وسوء التقدير…

غير أن هذا الذي أخفق ورُمِي بالتهور والاندفاع والجنون وسوء التقدير، يوقظ في غيره وفيمن بعده معنى جديدا يقول: قد كان يمكن أن ننتصر لو أنه فعل كذا وكذا، وتجنب كذا وكذا…
وهذا الشعور الذي استيقظ في الآخرين، هو أثر من طيبات آثار هذا المندفع المجنون.. فإنه يهديهم ويدفعهم إلى محاولة جديدة.. قد تنجح أيضا وقد تخفق!!

إن الضربة الأولى هي الضربة التي تصيب الوعي، وتقول: العدو ضعيف!! وهزيمته ممكنة!!
تلك هي الضربة الحاسمة في المعركة الطويلة.. سواء أصاب فيها صاحبها النصر، أو ترك لمن بعده تجربة يهتدي بها!

وهذا هو فضل سيد الشهداء.. وفضل مفجري الثورات… وفضل محرري الشعوب.. وفضل أبي إبراهيم وصحبه

والله من وراء ذلك كله محيط.. هل نسيت ختام الآية *{ليقضي الله أمرا كان مفعولا، وإلى الله ترجع الأمور}*؟!!

إنه ما من مُخَطَّط إلا أفلتت منه خطته حين نزلت إلى واقع العمل، وفوجئ بمتغيرات عدة لم تكن في باله…
نعم، فالله يحول القلوب، ويُصَرِّف الأبصار، ويدبر الأمور…
وكم من ضارب ضربة لم يتصور بعد نتائجها نجاحا وإخفاقا… وأنت نفسك، ترى في حياتك الصغيرة كيف أن عملا بلغ بك نجاحا لم تتوقعه، أو خطأ بسيطا أودى بك في مهاوٍ لم تتوقعها أيضا!
وهكذا كان أبو إبراهيم حتى لحظته الأخيرة التي غدت مضرب الأمثال.. العصا في وجه المسيرة…

الفعل المُلهم الذي يبدو بالحساب الرياضي المنطقي لا معنى له.. ولكنه يثير في الناس والجماهير معاني عظيمة تتحول فيما بعد إلى أسلحة عتيدة…

ولله در تميم حين أنشد فقال:
رمى بالعصا جيش العدو وصية.. لمن عنده غير العصي وما رمی
رمى بالعصا لم يبق في اليد غيرها.. ومن في يديه العسكر المجر أحجما
غدت مضرب الأمثال منذ رمى بها.. لكل فتى يحمى سواه وما احتمى
هنا يصبح الإنسان دينا مجردا… ويصبح دين الناس شخصا مُجَسَّما

وقبله قال غيره: لعمرك إني أرى مصرعي.. ولكن أغذُّ إليه الخطى

وقبلهم قال عظيمنا وجليلنا وسيدنا وفخرنا في الأولين والآخرين، عمر بن الخطاب: “لو لم أجد إلا الذر لقاتلتكم به”!!

لئن طال بي عُمُر، وقدر الله السلامة، فإن في النية تقديم حلقات عن الصمود الذي غير التاريخ مع أنه يخالف كل حسابات المنطق الرياضية!! وعن أولئك الرجال الذين اختاروا القتال أو الثبات في لحظة لا يسعفهم فيها شيء من أمر الدنيا!!

بمثل أولئك فتحنا الدنيا .. وبمثل أولئك – عند عدونا – تعرقلت فتوحاتنا وتعطلت خططنا وتوقفت مسيرتنا…

وبمثلهم، بأبي إبراهيم وأمثاله، نستأنف مسيرة الأمة من جدید.

وهذا أمر قد بدأ، ولن يرجع إلى الوراء أبدا…

Related Articles

Back to top button