عاممقالاتمقالات الرأي

من الجمود إلى التوافق: قراءة في آلية الحوار المهيكل للبعثة الأممية في ليبيا

إعداد: الدكتور علي جمعة العبيدي
رئيس مؤسسة شمال أفريقيا للدراسات السياسية والاستراتيجية

المقدمة

تواجه ليبيا منذ سنوات أزمة سياسية معقدة تتمثل في انقسام المؤسسات، وتعثر المسار الدستوري، وغياب الثقة بين الفاعلين السياسيين. وقد أدى هذا الوضع إلى حالة من الجمود عطلت أي إمكانية للوصول إلى تسوية وطنية شاملة.
في هذا السياق، أطلقت بعثة الأمم المتحدة في منتصف عام 2025 مبادرة جديدة تحت مسمى “الحوار المهيكل” (Structured Dialogue)، وهي آلية تشاورية تهدف إلى إعادة إطلاق العملية السياسية عبر إشراك طيف واسع من الفاعلين الليبيين، بما في ذلك مؤسسات المجتمع المدني، والأكاديميين، والبلديات، والنخب المحلية.
تهدف هذه المذكرة إلى تحليل مضمون هذه الآلية، وأهدافها، والتحديات التي تواجهها، مع تقديم مقترحات عملية للمجتمع المدني لدعمها والمساهمة في نجاحها.

خلفية وآليات الحوار المهيكل

يمثل الحوار المهيكل آلية أممية جديدة تهدف إلى تجاوز تجربة ملتقى الحوار السياسي (LPDF) لعام 2020 الذي فشل في إنتاج توافق دائم.
يختلف الحوار المهيكل في طبيعته ووظيفته؛ فهو ليس إطاراً تنفيذياً لاتخاذ القرار، بل عملية استشارية ميسّرة تهدف إلى إنتاج مقترحات وتوصيات حول قضايا جوهرية تعيق بناء الدولة الليبية.
تتمحور الجلسات حول أربعة مسارات أساسية هي: المسار السياسي والحوكمي، المسار الاقتصادي وإدارة الموارد، المسار الأمني وتوحيد المؤسسات العسكرية، ومسار المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.

الأهداف الرئيسة للحوار

تتمثل الأهداف القصيرة المدى في تهيئة المناخ العام للانتخابات، وخلق أرضية توافقية بين المؤسسات، وتفعيل دور المجتمع المدني في مراقبة المسار السياسي.
أما الأهداف طويلة المدى فهي أعمق، وتشمل صياغة رؤية وطنية مشتركة لمعالجة جذور الأزمة، وتأسيس ثقافة سياسية جديدة تقوم على الحوار والتفاوض بدلاً من الصراع، بالإضافة إلى بناء آلية دائمة للمساءلة السياسية والمؤسساتية.

الفاعلون المحليون والدوليون

يضم الحوار مزيجاً من الفاعلين المحليين والدوليين الذين يسهمون بدرجات مختلفة في توجيه العملية وصياغة مخرجاتها.
على المستوى المحلي، يشارك ممثلون عن منظمات المجتمع المدني، والبلديات، والنخب السياسية المستقلة، والقيادات الشبابية والنسائية، وتشكل هذه المجموعات القاعدة المجتمعية التي تمنح الحوار شرعيته.
أما على المستوى الدولي، فتقود بعثة الأمم المتحدة العملية من خلال الإشراف الفني والتيسير، في حين يشارك الاتحاد الإفريقي والجامعة العربية كشركاء دعم سياسي. وتتابع القوى الإقليمية والدولية مثل مصر وتركيا والاتحاد الأوروبي الحوار باعتباره أداة للاستقرار المؤسسي في المنطقة.

مقومات النجاح والتحديات

يمتاز الحوار المهيكل بشموليته وتنوع المشاركين فيه، ما يمنحه طابعاً جامعاً يعزز مصداقيته أمام الرأي العام. كما أن دعمه من الأمم المتحدة يوفر له غطاءً سياسياً قوياً يساعد على حمايته من التعطيل الداخلي.
مع ذلك، تبقى هناك نقاط ضعف جوهرية، أبرزها عدم إلزامية المخرجات قانونياً، واحتمال تأثير النخب السياسية التقليدية على مسار النقاشات، إضافة إلى محدودية الموارد والوقت المتاح للتنفيذ.
تتمثل الفرص الأساسية في تعزيز الثقة بين المواطنين والمؤسسات، ورفع الوعي بأهمية الحوار كأداة سلمية لحل النزاعات، وإمكانية دمج توصياته ضمن خارطة الطريق الأممية أو في التشريعات الوطنية المستقبلية.
أما التحديات فتتجسد في مقاومة بعض الأطراف المسلحة أو المتنفذة لأي حوار يحد من نفوذها، واحتمال تسييس العملية أو استخدامها كأداة لإعادة توزيع السلطة.

دور المجتمع المدني

يشكل المجتمع المدني أحد أهم ركائز نجاح الحوار المهيكل، إذ يمكنه أن يؤدي أدواراً متعددة تشمل المتابعة، والتوعية، والمناصرة، وصناعة المقترحات.
تتمثل أبرز مهامه في مراقبة تنفيذ مخرجات الحوار وضمان الشفافية في جميع المراحل، وتنظيم حملات توعوية لتعريف المواطنين بأهداف الحوار ومخرجاته، وبناء شبكات وتحالفات بين المنظمات المحلية والبلديات للمشاركة في تنفيذ التوصيات.
كما يُنتظر من المجتمع المدني إعداد أوراق سياسات ومذكرات فنية تقدم بدائل واقعية للمسارات الأممية، والعمل مع بعثة الأمم المتحدة على إنشاء آلية متابعة مشتركة تضمن استمرارية الحوار بعد انتهاء المرحلة الحالية.

التوصيات العملية

ينبغي على بعثة الأمم المتحدة ضمان تنوع المشاركين وشفافية الاختيار، وربط مخرجات الحوار بخارطة طريق تنفيذية واضحة قابلة للمتابعة.
على منظمات المجتمع المدني إعداد خطط استراتيجية للمشاركة في جميع المسارات، وتوسيع التعاون مع البلديات والمؤسسات المحلية.
على المؤسسات الوطنية تبني نتائج الحوار كمصدر شرعي للمقترحات السياسية، ودمجها في مشاريع القوانين والسياسات العامة.
يجب تأسيس آلية وطنية لمتابعة تنفيذ التوصيات، تضم ممثلين عن الحكومة والمجتمع المدني، مع تعزيز التواصل بين مختلف الأطراف لتجنب التسييس أو الاستقطاب الإقليمي.

الخاتمة

يُعد الحوار المهيكل فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة بين الليبيين وفتح مسار جديد نحو التوافق الوطني بعد سنوات من الانقسام والصراع.
إن نجاح هذه العملية يعتمد على الإرادة السياسية المحلية، وعلى قدرة المجتمع المدني على تحويلها من مجرد آلية استشارية إلى منصة فاعلة لإنتاج سياسات تعبّر عن احتياجات المواطنين.
فمن دون مشاركة مجتمعية واسعة وواعية، سيظل الحوار مجرد مبادرة عابرة، أما بتفعيل دوره الحقيقي فسيكون خطوة حقيقية نحو دولة مؤسسات مستقرة تتأسس على الحوار لا المغالبة.

Related Articles

Back to top button