دعوة الإسلام من خلال آيات سورة الممتحنة
إنَّ الإسلام دين سلام، وعقيدة حبّ، ونظام يستهدف أن يظلّ العالم كلّه بظله وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابين، وليس هناك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله، فأما إذا سالموهم، فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك، ولكن إذا وقعت الخصومة، فقد شرع الإسلام الجهاد في سبيل الله وجعله ذروة سنامه.
وهو حتى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الودِّ في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. [سيد قطب، في ظلال القرآن، 6/3544].
قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [سورة الممتحنة: 7]:
وهذا الرجاء من الله، معناه القطع بتحققه، والمؤمنون الذين سمعوه لا بُدَّ قد أيقنوا به، ولقد وقع بعد هذا بوقت قصير أن فتحت مكة، وأن أسلمت قريش، وأن وقف الجميع تحت لواء واحد، وأن طويت الثارات والمواجد، وأن عاد الجميع إخوة مؤلفة قلوبهم. [سيد قطب، في ظلال القرآن، 6/3544]
وفي هذه الآية إشارة وبشارة بإسلام بعض المشركين الذين كانوا آنذاك أعداء للمؤمنين، وقد وقع ذلك ولله الحمد والمنة. [تفسير السعدي، ص1815].
{وَاللَّهُ قَدِيرٌ}:
إنَّه قادر على كل شيء ومن ذلك هداية القلوب وتقليبها من حال إلى حال. ويقول ابن قيّم الجوزية في كتابه طريق الهجرتين: “القدير”: الذي لكمال قدرته، يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً، والبرّ براً، والفاجر فاجراً، وهو الذي إبراهيم وآله أئمة يدعون إليه ويهدون بأمره، وجعل فرعون وقومه {أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ]القصص:4] .
أ- {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}:
لا يتعاظمه ذنب أن يغفره، ولا عيب أن يستره. [تفسير السعدي، ص1815]. والغفور من أسماء الله الحسنى: الذي لم يزل يغفر الذنوب، ويتوب على كل من يتوب.
والرحيم من أسماء الله الحسنى: فهو الذي يرحم عباده بنعمته ويفيض عليهم برحمته، ومن رحمته سبحانه مغفرته لذنوب عباده والصفح عنهم وتكفير سيئاتهم وفتح باب التوبة لهم. [ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص134].
قوله تعالى: { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}:
لمّا نزلت الآيات الكريمة التي حثت على الاقتداء بإبراهيم – عليه السّلام – في البراء والولاء والمهيّجة على عداوة الكافرين، وقعت من المؤمنين كل موقع، وقاموا بها أتمّ القيام، وتأثموا من صلة بعض أقاربهم المشركين، وظنوا أن ذلك داخل فيما نهى الله تعالى عنه، فأخبرهم أن ذلك لا يدخل في المحرم. [تفسير السعدي، ص1815].
وقد رخص الله عزَّ وجل لهم في الإحسان إلى من لم يقاتلوهم في الدين، ولم يخرجوهم من ديارهم، ورفع عنهم الحرج في أن يبروهم، وأن يتحروا العدل في معاملاتهم معهم، فلا يبخسونهم من حقوقهم شيئاً. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 6/3544].
أ- صلة الأرحام من المشركين:
عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه قالت: أتتني أمي راغبة في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فسألت النبي صلّى الله عليه وسلّم: أصلها؟ قال: نعم، قال ابن عيينة: فأنزل الله تعالى فيها {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ}.
وقال الحافظ ابن حجر: والمعنى أنّها قدمت طالبة في برّ ابنتها لها، خائفة من ردِّها إيّاها خائبة، وهكذا فسَّره الجمهور.
قال الطبري رحمه الله: في قوله {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، إنَّ الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: {الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له….
ب- {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}:
أي العادلين. وفي الحديث النبويّ الشريف: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إنَّ المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرّحمن عزّ وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا.
وعدّ النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح الإمام العادل من الأصناف السبعة الذين يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه.
وهذه الآية توضح الفرق بين المحارب وغيره، وأنَّ الولاء المنهي عنه في الآية يقصد به المحاربون المعادون لكم، وتوضّح أيضاً الفرق بين المعاملة الحسنة الطيبة وبين الموالاة الممنوعة، فالله تعالى لا ينهى المسلمين عن الإحسان والبرّ والقسط للقبائل التي تميل للمسلمين ولا تحاربهم ولا تظاهر عليهم، مثل خُزاعة ومُزينة وأسلم وجهينة وغفار الذين كانوا مشركين، لكن هواهم مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وكانوا يحبون أن ينتصر على قريش فهؤلاء لا ينهاكم الله عنهم، وفي هذا درس لمن يجعلون الكفار في ميزان واحد في التعامل وهم ليسوا كذلك، فمنهم المعتدي المبارز بالعداوة والصدِّ عن سبيل الله، ومنهم المسالم المحايد، ومنهم المدافع عن حقوق المستضعفين من المسلمين.
وفي العصر الحاضر منهم من يكون متعاطفاً مع قضايا الإسلام، ويتحمل العناء بسبب وضوح آرائه ومدافعته عن الحق، فمثل هؤلاء يجب أن يحتفى بهم، وتمد معهم الجسور ويكرمون معنوياً ومادياً، ويعاملون بالخلق الحسن والكلام الطيب والصبر وحسن المعاملة والحفاوة والتقدير، كما أن للآباء مكان في البرِّ والإحسان كما مرّ معنا، وكذلك الزوجة الكتابية مع ما يقع بين الزوجين من المودة والرّحمة، كما قال تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ]الروم:21[.
وكما في قصة أبي طالب الذي أحبه النبي صلّى الله عليه وسلّم وحزن على موته، فأنزل الله قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ]القصص:46[، ففرق بين الطائفتين وشرع لغير المحاربين أمرين: البر: وهو الإحسان إليهم بالقول والفعل، والقسط: وهو العدل، وفي الآية حثّ عليهما: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فالعدل قيمة مطلقة مع كل الناس. [إشراقات قرآنية، سلمان العودة، 2/111].
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}:
فمن وُجدت فيهم هذه الخصال الثلاثة أو بعضها: بأن قاتلوكم في الدين، أو أخرجوكم من دياركم، أو ظاهروا على إخراجكم، أي أعانوا على إخراجكم، فواحدة من هذه الجرائم تكفي لأن يكونوا محلَّ النفي والعداوة وتحريم البرّ والتولي {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.
وقد ادّعى بعضهم أن الآية منسوخة، والصحيح أنه ليس فيها نسخ، وأنكر الطبري وعامة المفسرين دعوى النسخ؛ لأنَّ الآية متأخرة النزول، نزلت في السنة الثامنة للهجرة أو قريباً من ذلك، ولم يأتِ بعدها ما ينسخها، بل هي توضح لما فيها من الآيات. [إشراقات قرآنية، سلمان العودة، 2/111].
إنَّ الآيات الكريمة التي جاءت في سورة الممتحنة بعد التعقيب عن دعوة المسلمين الاقتداء بالأسوة الحسنة “إبراهيم – عليه السّلام – ومن معه” في الولاء والبراء، تمثل قاعدة في معاملة غير المسلمين، وتعدُّ أعدل القواعد التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية لهذا الوجود الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه الكوني وتقديره الأزليّ، من وراء كل اختلاف وتنوع.
وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثابتة لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة ردّه، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة، وهي تهديد الاعتداء، أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وهو كذلك اعتداء فيما عدا هذا، فهي السلم والبرّ والعدل للناس أجمعين. [في ظلال القرآن، سيد قطب، 6/3545].
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية العقيدة دون غيرها، ويجعل القيمة التي يُفتن بها المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها، فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه ويتقاتلون، إلا حرية الدعوة، وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة الله.
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة – أي سورة الممتحنة- كلها إلى إبراز قيمة العقيدة وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون، فمن وقف تحتها فهو منهم، ومن قاتلهم فيها فهو عدوهم، ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصدّ الناس عنها، ولم يحُل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مُسالم لا يمنع الإٍسلام من البرّ به والقسط معه.
إنَّ المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها مع نفسه، ومع الناس من حوله، فلا خصومة على مصلحة، ولا جهاد في عصبية؛ أي عصبية من جنس أو أرض أو عشيرة أو نسب، إنَّما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج المُطبّق في الحياة. [في ظلال القرآن، سيد قطب، (6/3545].
…………………………………………..
ملاحظة هامة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “إبراهيم عليه السلام”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد أكثر مادته من كتاب: “في ظلال القرآن”، لسيد قطب رحمه الله.
المراجع:
• سيد قطب، في ظلال القرآن.
• تفسير السعدي “تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان”.
• ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل.
• تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي.
• إشراقات قرآنية، سلمان العودة، مؤسسة الإسلام اليوم للنشر، السعودية، ط1، 1970م، (2/111).
• إبراهيم عليه السلام أبو الأنبياء والمرسلين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م.