ورَم القابلية للاستبداد
الدكتور/ ونيس المبروك
“القابلية للاستعمار” مصطلح للمفكر الإسلامي الأستاذ مالك بن نبي، رحمه الله، وهي: حالة نفسية واجتماعية معقدة، تجعل صاحبها يستسيغ الذلَ والهوانَ والاستعباد من الأجنبي، بل يرحب به ويبرر له أحيانا!
هذه “القابلية” هي أعظم عون، وأصلح بيئة لنجاح الاستعمار واستقراره كما يرى مالك بن نبي!
“القابليات” كثيرة ومتنوعة؛ فهناك قابلية للاستعمار، وأخرى للاستعباد، وثالثة للاستغفال،… وقس على ذلك.
أود هنا التذكير بإحدى القابليات، التي أسميها “القابلية للاستبداد”
صحيح أن للطاغية المستبد أثرًا كبيرًا في فساد حياة الناس، وتقويض الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والمال والنسل)، وممارسة القهر والظلم ومصادرة كل الحريات، ولكن!
هل كان لهذا المستبد أن يتحكم في رقاب الناس ويمتطي ظهورهم لو لم تكن تلك الظهور ” منحنية”؟
أو بتعبير مالك بن نبي؛ هل كان لبشر ضعيف، أن يستبد ويستعبد الناس، لو لم يجد لديهم “قابلية للاستبداد”؟!
في معادلة الإصلاح، يجب أن نراجع تقديرنا لوزن شخص المستبد في تلك المعادلة، وأثر هذا “العامل” في الحريات العامة، واستقرار المجتمعات ونهضة الشعوب، وما هي نسبة تأثير شخصية الطاغية المستبد من مجموع هذه المعادلة؟
في تقديري أن تحميل الطغاة جريرةَ كل أزماتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأسرية، بل وتحميلهم المسؤولية عن أمزجتنا النفسية ومسالكنا الأخلاقية… هو نوع من أنواع الغلو والإسراف، بل قد يكون ضربًا من ضروب الإسقاط النفسي، والحِيل النفسية، التي يقوم بها المرء- دون أن يشعر- من أجل تخفيف تأنيب الضمير ورفع المسؤولية عن نفسه وعن المجتمع من حوله.
ما يهمني في هذا السياق؛ أن هذا الإسراف أفسدَ علينا تشخيص الحالة، وشوّش على مؤشر “بوصلة الإصلاح”! وحَجبَ عنّا مساحات واسعة لرؤية أحوال مجتمعاتنا وأمتنا، ومعرفة عِللها بشكل صحيح، بل زرعَ في حقول ثقافتنا المعاصرة بدعةً مُعقدة، أو عُقدةً مبتدَعة وهي “الجبرية السياسية”، حيث أصبحت كل مناشط الحياة رهن إرادة الحاكم المستبد؛ فأمست الحياة هي الحاكم والحاكم هو الحياة!
خلال سفري ومشاهداتي رأيت أن معظم شعوبنا لديها “قابلية للاستبداد”، بل تطورت عند بعضنا إلى ما يسمى متلازمة إستوكهولم (Stockholm syndrome)، حيث يتعاطف المواطن المُستعبَد من الطاغية المُستعْبِد، ويتعاون معه برغبة حقيقية، ويظهر له علامات الولاء ويقدم له قصائد الثناء وفنون الانثناء، ويعتبره منقذا “محسنًا”، غاية إحسانه؛ أنه تركه على قيد الحياة، يأكل ويشرب في أمان!؛ فليُشكّله كما يريد، وليأخذ “التنور بناره بكل”!
هذه “القابلية” هي استعداد نفسي، تَكوّنَ وتناسلَ من خلال ثقافة الهوان، التي تغذّت بفهم ديني فاسد، وعرفٍ اجتماعي خاطئ.
وستبوء كل محاولات المصلحين بالإخفاق وضعف الجدوى، ما دامت ترتكز وتنحصر في نقد المستبد ولعنه، أو تقتصر على التحذير من آثار طغيانه، وتبتعد عن معالجة مكيثة ممنهجة لاستئصال “ورم” القابلية وتطويق آثاره على أوسع مساحة في المجتمعات.
و سيبور سوق المستبدين عندما يتم ترشيد الوعي، وتصحيح هذه المفاهيم، وتكوين الشباب على قيم الحرية والكرامة، وأن الله تعالى خلق الناس على فطرة سوية، ولن يستعبدهم أحدٌ وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، إلا إذا انتكست فطرتهم وتكونت في قلوبهم وعقولهم “القابلية للاستبداد”.