فقه التعامل مع الإساءة للمقدسات الإسلامية.
د. خالد حنف/ أستاذ جامعى: متخصص في أصول الفقه، عميد الكلية الأوروبية للعلوم الإنسانية، ورئيس لجنة الفتوى بألمانيا.
تابع المسلمون في أوروبا والعالم إقدام متطرف يميني على حرق نسخة من القرآن الكريم أمام السفارة التركية في السويد، وقد تكرر الأمر في هولندا وسط حماية الشرطة وتغطية الإعلام، ورغم حدوث الإساءة لمقدسات المسلمين سابقاً في عدد من البلدان الأوروبية كفرنسا والدنمارك، فإن هذا الحدث يكتسب أهمية خاصة، حيث وقع أمام السفارة التركية، ومن سياسي عنصري معروف بعدائه وتكديره للسلم العام في السويد، وفرقٌ كبير بين إساءة فردية من صحفي أو رسام في جريدة مغمورة، وبين إساءة تقع من رمز سياسي معلوم مسبقاً ما سيسفر عنه فعله، ونحن إذ ننكر وندين بشدة هذا العمل الإجرامي القبيح الذي يثير الكراهية ويستعيد العنصرية بآثارها البغيضة على المجتمع، ويضر بالتعايش السلمي ويقوض جهود الاندماج والتوطين، لنؤكد على أن الإساءة للمقدسات لا علاقة لها بحرية التعبير كما قررت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان: “أن الإساءة للمقدسات الدينية لا تدخل ضمن حرية التعبير، كما أكدت المحكمة على حق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية والحفاظ على السلام الديني في المجتمع، وذلك في حكمها الصادر في 15 فبراير 2011م”، وحرية التعبير في كل النظم والقوانين لها حدود وموازنات وخطوط لا يُسمح بتجاوزها.
ومع الإنكار والإدانة للفعل نثمن ونقدر الإدانات الأوروبية والعربية التي رفضت حرق نسخة من المصحف الشريف، خاصة إدانة ألمانيا التي اعتبرت الفعل غير ملائم للغاية وغير محترم، وأن هذا الاستفزاز يساهم في إحداث انقسام داخل المجتمع.
ونحن على يقين بأن هذه الأفعال الدنيئة لن تنال من كتاب الله -عز وجل- ولن تسيء إلا إلى فاعلها كما قال تعالى: {إِنَّا نَحۡنُ نَزَّلۡنَا ٱلذِّكۡرَ وَإِنَّا لَهُۥ لَحَٰفِظُونَ} [الحجر: 9]، ولأن هذه الإساءة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، وجب علينا بيان فقه التعامل مع الإساءة للمقدس.
وفيما يلي نقاط منهجية في التعامل مع تلك الإساءات:
1- بين التجاهل والتفاعل: الأصل هو تجاهل الإساءات خاصة إذا كانت فردية لا تمثل دولاً أو أحزاباً أو توجهاً سياسياً لحزب من الأحزاب، وأن لا يقوم المسلمون بنشر تلك الإساءات أو تداولها أو الرد عليها أو نقلها من البلد الذي وقعت فيه إلى غيره؛ لأن المنهج القرآني دعا إلى الإعراض عن الجاهلين والصبر على حماقاتهم قال تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} [الأعراف: 199] وقال: {وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُۖ فَذَرۡهُمۡ وَمَا يَفۡتَرُونَ } [الأنعام: 112] ، وقال: {وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] ، والنبي صلى الله عليه وسلم أعرض عن الجاهلين المكذبين، فلم تنقل إلينا أشعار الهجاء والسب للنبي صلى الله عليه وسلم رغم كثرتها، أما إذا كانت الإساءة من رمز سياسي أو مسؤول في الدولة أو توجهاً للدولة، فيجب التفاعل معها وإنكارها ورفضها بالطرق السلمية والأدوات القانونية المتاحة، وإيصال رسائل واضحة برفضها؛ لأن ضرر الإساءة في هذه الحالة لا يعود على المكون الأوروبي المسلم فحسب، وإنما على نسيج المجتمع المترابط المتماسك وعلى تكدير السلام الاجتماعي فيه، كما يدمر القيم الأوروبية التي قامت عليها حضارتها، ويشوه صور بلدان الإساءات في أذهان أكثر من مليار مسلم حول العالم.
2- الغضب الحضاري: يجب أن يكون العنف بكل صوره وأشكاله خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه أو الوقوع فيه مهما بلغت درجة الإساءة للمقدسات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عائِشَةُ إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ، وما لا يُعْطِي علَى ما سِواهُ”. رواه مسلم، كما يجب أن يكون غضبنا لمقدساتنا حضارياً يتوافق مع قوانين البلاد ونظمها، وأن يكون بلغةٍ وأدوات يفهمها ويدركها المجتمع، وأن تمنع أشكال السب اللفظي أو الاعتداءات على السفارات الأوروبية في العواصم العربية، وأن نتجنب كل فحش أو تفحش في القول والفعل غيرة على مقدساتنا فهذا ضرره أكبر من نفعه حالاً ومآلاً.
3- الغضب للإساءة للقيم القرآنية: إن الغضب لامتهان وحرق نسخة ورقية من القرآن الكريم مشروع وطبيعي أن يصدر من كل مسلم لكن يجب أن يكون هذا الغضب أيضاً، بل أشد منه عندما تنتهك القيم القرآنية؛ فلا يُعقل أن يمنع القرآن الظلم ويعلن الحرب على الاستبداد، ثم نجمع بين تأييد المستبدين القتلة وبين الغضب لحرق نسخة من القرآن؟! إن الأنظمة الغاضبة لإهانة المقدس في السويد وهولندا فعلت أكثر منهم حين قتلت وسجنت وهجَّرت حفظة القرآن وأهله، وإنكار الفعلين واجب يحتمه العقل والدين، ولو أنصفت تلك الأنظمة حقاً لمثلت القيم القرآنية بإقامة العدل ومنع الظلم، فقد أحرقوا قيم القرآن كما أحرق غيرهم أوراقه! وإن المسلم الغاضب لإهانة مقدسه اليوم يجب أن يراجع حاله مع القرآن الكريم، وأن يحزن حين يرى نفسه معرضاً عن القرآن تلاوةً وتدبراً، مفرطاً في قِيمه ورسالاته.
4- الحذر من التعميم أو الاستقواء: من الخطأ تعميم بعض المسلمين واتهامهم للشعوب والحكومات الغربية في الجملة أنها تسيء لمقدسات المسلمين وتؤيد تلك الأفعال الكريهة، وهذا غير صحيح، فإن الشعوب الأوروبية في الجملة ترفض هذه الحماقات وتستنكرها وهناك حكومات ودول كثيرة أدانت السلوك العدائي ضد القرآن، والقرآن يعلمنا أن نكون عدولاً منصفين في تقييمنا للأشخاص والمواقف، قال تعالى: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا يَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ عَلَىٰٓ أَلَّا تَعۡدِلُواْۚ ٱعۡدِلُواْ هُوَ أَقۡرَبُ لِلتَّقۡوَىٰۖ} [المائدة: 8]، والمسلمون في الغرب أكثر الناس تأذياً وتضرراً بتعميم الأحكام عليهم ونسبتها إلى دينهم كلما وقعت حادثة عنف في الغرب وكان فاعلها مسلماً، فالخطأ يجب أن ينسب إلى فاعله وحده ومن يؤيده ويدعمه فيه ولا يعمم على بلد أو دين أو عرق أو لون، كما يجب على المسلمين في أوروبا الحذر من الاستقواء بالخارج في التعامل مع ملف الإساءات بطلب التدخل من الدول والحكومات العربية، لتكن لهم مواقفهم وحساباتهم، لكن لا يتحمل المسلمون في أوروبا تبعاتها، والأزمة ستمر وتمضي كغيرها، ولكن سيدفع المسلمون في الغرب وحدهم فاتورة تصعيد غيرهم، ويسع الفرد ما لا يسع المؤسسات ويسع الدول والحكومات ما لا يسع المكون الأوروبي المسلم شديد الهشاشة والضعف.
5- الانتقال من ردات الفعل إلى الفعل: آفة المسلمين الكبرى أنهم لا يتحركون أو يتفاعلون إلا إذا وقعت الواقعة، ويتمركزون حول الدفاع عن أنفسهم، مما يجعلهم دائماً في ثبات أو توقف لا يتقدمون إلى الأمام في الإنجاز أو تحقيق المكتسبات، ومن يُغلِّب العمل المستدام والرؤية بعيدة المدى لا يتوقف عن العمل لحادث عرضي مؤقت، ولا يقدم على خيارٍ يضر برؤيته الكلية وتصوراته لموقعه وغاياته، أما من يغضب سريعاً فيتوقف عن العمل سريعاً، ولا يحسب حساباً لمواقفه، فيكسب خصومه رغم تطرفهم ويخسر هو رغم اعتداله، والمسلمون في الغرب مطالبون بألا تصرفهم الأحداث العابرة المؤقتة عن شؤونهم وهمومهم المتعلقة بأصل وجودهم والمهددة لهوية ودين الأجيال الجديدة في الغرب.
6- الاتحاد والتكتل واجب الوقت: لم ينجح المسلمون في الغرب في تحقيق التكتل والاتحاد على النحو المأمول، وحالة التشرذم والافتراق لا شك أنها تعيق مواجهة التحديات كالإساءة للمقدسات وغيرها، ولو لم يخرج المسلمون في الغرب بدرس أو كسب من تكرار الإساءات سوى التكتل والاتحاد وبناء المرجعية التي تمثلهم لكفى، ولكان أبلغ رسالة عملية يتعلمونها من القرآن الكريم الذي ربط بين كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، فقال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ} [الأنبياء: 92] ، وقال: {وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] ، ولا أدري كيف يُغضبنا حرق أوراق المصحف ولا نغضب لحالنا وقد أحرقنا قيمه بسلوكنا وتفرقنا؟!
قد يقبل التشرذم والافتراق في أوقات السير والرخاء، أما في الأزمات والتحديات فلا نجاة إلا بالاتحاد والاعتصام ونبذ الفرقة، فهل يعي مسلمو أوروبا الدرس؟
7- المقاطعة خيار غير مناسب لمسلمي أوروبا: مع كل إساءة لمقدسات المسلمين تتعالى الدعوات لمقاطعة بضائع ومنتجات دول الإساءات، ظناً منهم أنها ستلقن تلك الدول درساً تمنع بعده أي إساءة جديدة لمقدسات المسلمين، ومن حق كل مسلم أن يعبر عن غضبه لنبيه وكتابه ومقدساته بالطريقة التي يراها مناسبة حتى وإن لم ير لها أثراً في الواقع، ما دامت طريقة الغضب سلمية وحضارية وقانونية، ولكن مقاطعة البضائع والمنتجات للسويد أو غيرها خيارٌ لا يناسب المسلمين في الغرب، بل قد يضر بهم ضرراً بالغاً، لأنه يتناقض مع مبدأ المواطنة والتعايش، بل يضر بهم كمواطنين إذا تضرر اقتصاد الدولة التي يعيشون على أرضها، ويحول المتضامنين مع المسلمين والرافضين للإساءات إلى خصوم لهم، ويثير جملة من الأمراض والإشكالات المجتمعية، والإساءات متكررة ولن تتوقف، وهي في المقروء والمكتوب أضعاف المرسوم والمشاهَد، وإن قاطعنا كل بلد وقعت فيه إساءة فلن نجد من لا نقاطعه! والمقاطعة لا تثمر الثمرة الحقيقية في تقديري إلا إذا تبنتها الحكومات والدول لا الأفراد أو الأقليات، فضلاً عن أنها وسيلة لمعاقبة الأبرياء الرافضين للإساءات، وقد حدث هذا في الدنمارك عندما وقعت أحداث الرسوم السيئة الشهيرة، وكان الشعب الدنماركي في مجموعه رافضاً لها، ثم تحول عن موقفه بعد دعوات المقاطعة، وأمر المقاطعة يحتاج إلى دراسة سياسية واقتصادية ونفسية بعيداً عن العاطفة والارتجال في ضوء المقاطعة التي وقعت سابقاً ولعل أوسعها كانت وقت غزو أمريكا للعراق، وتبقى المقاطعة خياراً سلمياً يمكن التلويح به أو اللجوء إليه للتعبير عن رفض الإساءات وإنكارها.
8- ضرورة دراسة وتقييم منهجية التعامل مع الإساءات السابقة: أخذت الإساءة لمقدسات المسلمين صوراً وأشكالاً مختلفة ووقعت في عدد من البلدان الأوروبية، وتباينت ردود أفعال المسلمين والحكومات حولها وتفاوتت في حجمها واستمراراها، وكان الواجب على المسلمين في أوروبا أن يقوموا بدراسة منهجية التعامل السابقة مع الإساءات، وهل حققت أهدافها أم لا؟ وحسب علمي أن شيئاً من ذلك لم يقع، ولو طرحتُ سؤالاً قلتُ فيه: من ربح ومن خسر من التعامل مع الإساءات السابقة؟ لكان الجواب ربح المتطرفون والعنصريون، وخسر المسلمون ومؤسساتهم في الغرب، أما ربح المتطرفين فقد اشتهر الرسام وحارق أوراق المصحف الشريف بعد أن كان مغموراً لا يسمع به أحد، وانتعشت الجريدة السيئة ووزعت ملايين النسخ بلغات مختلفة بعد أن كانت على وشك الإفلاس، وانتقلت الرسوم من فصل دراسي أمام بضعة تلاميذ إلى صفحات ومواقع الشبكة، ورُفعت فوق البنايات والعمارات الشاهقة في الميادين الكبرى، ووقع استفزاز بعض الشباب المسلم، وهذا هو غاية ما يبحث عنه من يقوم بتلك الإساءات، وأما خسارة المسلمين ففي عزلتهم عن المجتمع، وفقدانهم الأنصار المؤيدين لهم والرافضين للإساءات، وانشغالهم عن قضاياهم ومشروعاتهم، وانقطاعهم عن الحملات التي أطلقوها بسبب الإساءات كالتعريف بنبي الرحمة وغيرها، وصار خصومهم يأخذونهم إلى الملف الذي يريدون في الوقت الذي يريدون ويشغلوهم به وقتما يشاؤون، ومن لا يحسن التعلم من أخطائه ودراسة ماضيه، سيعود مجدداً في المستقبل القريب إلى ذات الأخطاء وسيضع بنفسه العراقيل في طريقه.
9- هندسة الغضب لا تبريد العاطفة: إن حرق نسخة من القرآن الكريم في السويد هو حدث عنصري يتم توظيفه سياسياً من أطراف عدة، وقد أخذ بُعداً يصعب معه تجاهله وعدم التفاعل معه، وعلى قادة المسلمين وأصحاب الرأي والفكر أن يهندسوا غضب المسلمين، وأن يأخذوهم إلى خطوات عملية لتصحيح علاقتهم مع القرآن الكريم، وأن ينقلوهم من الفعل المؤقت إلى العمل المستدام، وألا نقع في تبريد عاطفة الغيرة على المقدسات والتمعر ألماً لأجلها؛ فإنه غضب محمود وغيرة في موضعها غير أنها تحتاج إلى ترشيد وتصويب، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.