*هل نحن حقا نصوم في الشهر الخطأ؟*
بقلم: أبوبكر يحيى
من المشاغبات التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وتهدف لتشكيك الناس في دينهم فيديو يزعم فيه صاحبه أننا نصوم شهر رمضان في وقت خاطئ منذ ألف وأربعمائة سنة وذلك بناء على تفسير خاطئ لآية واحدة من القرآن الكريم أخطأ في فهمها كل المفسرين واطلع هو وحده على التفسير الصحيح.
هذه الآية هي قوله تعالى: إِنَّمَا ٱلنَّسِيٓءُ زِيَادَةٞ فِي ٱلۡكُفۡرِۖ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُۥ عَامٗا وَيُحَرِّمُونَهُۥ عَامٗا لِّيُوَاطُِٔواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُۚ زُيِّنَ لَهُمۡ سُوٓءُ أَعۡمَٰلِهِمۡۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَٰفِرِينَ) التوبة : 37
ورغم أن كل المفسرين يجمعون وبالدليل والسرد التاريخي المفصل لسبب هذه الآية والمقصود بالنسيء فيها بخلاف ما يقوله المتحدث في الفيديو قام هو بالاستدلال على صحة كلامه بطريقة مسلسلة تبدو منطقية واعتمد في ذلك أسلوب القفز من نقطة إلى اخرى دون إعطاء مجال للمستمع أن يفكر في كل نقطة بطريقة صحيحة، ومعتمدا على عصر السرعة في تلقي المعلومات، وعلى معرفة المتلقي المحدودة في كل جزئية من الجزئيات التي تناولها؛ ليبدو أن تفسيره المغلوط منطقي وصحيح وأن النتيجة التي بنيت عليه سليمة.
هذا الفيديو يهدف إلى ضرب عدة ثوابت إسلامية في آن معا؛ القرآن الكريم ، السنة النبوية، الصحابة رضوان الله عليهم، طريقة فهم القرآن وتفسيره… باختصار ضرب الدين كله، ولكنه أغفل عنصرا مهما وهو الاستناد إلى الدليل العلمي الصحيح مما جعل كل ذلك هباء منثورا، ولكنه مع ذلك قد ينطلي على من ليس لديه علم أو منهجية علمية في تلقي المعلومات من مصادرها الصحيحة.
وقد فصلت في هذه النقاط ليتضح حجم الجريمة وحجم التآمر على المسلمين ودينهم الذي استهدفه هذا الفيديو التافه:
*أولا: التشكيك في صحة القرآن الكريم وإمكانية حصول التحريف فيه:* وذلك من خلال قوله في الفيديو: إن القرآن قد كتب بالقراءات السبع التي كما وصفها بأنها مختلفة تماما في النطق والتشكيل والمعنى، وهذا الكلام سخيف وغير صحيح إطلاقا، فالقرآن الكريم نقل إلينا بطريقتين: بالسماع وبالكتابة. أما الكتابة فهي كتابة واحدة فقط لا يوجد غيرها والتي كتبها كبار قراء الصحابة رضوان الله عليهم عند جمع القرآن الكريم في زمن سيدنا عثمان رضي الله عنه معتمدين على ما تم جمعه في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه من صحف، وهذه الكتابة (مصحف عثمان بالرسم العثماني) تشمل القراءات السبع المتفق على تواترها (ولذلك نجد أن الرسم العثماني في المصحف يختلف في قواعد كتابته عن قواعد الإملاء المعروفة) وهذه القراءات وصلت إلينا عن طريق السماع والرواية الشفهية وهذه هي الطريقة الثانية التي وصل بها القرآن إلينا والتي يتناقلها إلى يومنا هذا حفاظ القرآن وعددهم بعشرات الآلاف أو ربما مئات الآلاف حول العالم ويحصلون بناء على إتقان قراءتهم شهادة تعرف باسم (الإجازة المسندة) والتي يعرف كل مجاز بها من هم الأشخاص الذين أخذ عنهم هذه القراءة وصولا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
والقراءات السبع ليست مختلفة إلا في طريقة النطق وأحكام التجويد وأحيانا في التشكيل وتركيب بعض المفردات، وهذا الاختلاف لا يتغير بسببه المعنى بل يتعدد به معنى الجملة الواحدة التي تتسع أصلا لهذا المعنى لو قرأت بقراءة واحدة فقط. فاللفظ (مالك) في سورة الفاتحة على قراءة عاصم و(ملك) في قراءة نافع لا يختلف المعنى بينهما بل يتداخل ويؤديان إلى نفس النتيجة ولذلك فلا تعارض إطلاقا في أي لفظ مختلف بين القراءات كلها، كما يقول صاحب الفيديو.
*ثانيا: الطعن في الصحابة:* فقد ادعى صاحب الفيديو كذبا بأنهم غيروا ما كان عليه الأمر في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ست سنوات من وفاته. وهذا الكلام رغم أنه يفتقر إلى أي رواية أو معلومة يستند إليها صاحب الفيديو إلا انه يطعن بشكل مباشر في مصداقية الصحابة ونزاهتهم ويتهمهم بأنهم غيروا الدين وغيروا الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
*ثالثا: الطعن في السنة النبوية:* لأن الذين غيروا الدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم أنفسهم الذين نقلوا إلينا القرآن والسنة فإن كانوا كذلك فما الذي يثبت لنا أن السنة النبوية والأحاديث التي رواها لنا هؤلاء الصحابة صحيحة؟؟!!
*رابعا: الطعن في التفاسير وفي فهم العلماء للقرآن وللإسلام* وادعاء أنهم أخطؤوا ونحن اتبعناهم على غير هدى كل هذه القرون من الزمن دون أن يوجد أحد يصحح هذا الخطأ في الفهم، وهذا الكلام السخيف يقلل من شأن هذه الأمة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تجتمع أمتي على ضلالة” (رواه ابن ماجه، والطبراني) ، بل هو تقليل من شأن علماء هذه الأمة وسلفها الصالح بل وحتى غير العلماء أولئك الذين يتبعون الضلال والخطأ في ركن من أركان الإسلام وهو صيام رمضان دون أن يعرف أحد منهم ما هو الصحيح إلا صاحب هذا الفيديو الفذ الذي كشف المستور لأول مرة منذ ألف وأربعمائة سنة.
*خامسا: الطعن في الدين كله:* لأن دينا قرآنه مختلف في رواياته ومختلف في معانيه وصحابته الذين نقلوه حرفوه وعلماؤه أخطأوا في تفسيره وجمهور أمته تلقوا هذا الخطأ قرونا عدة دون أن يهتدوا؛ نتيجة ذلك أنه دين غير موثوق به ويجب مراجعة كل تفاصيله من جديد، إن أبسط رد على هذا الادعاء السخيف أن التفاسير والمصنفات العلمية الموروثة عن العلماء والمفسرين في عصور النهضة الإسلامية لم تدع أي مجالا أو فراغا لأي أحد أن يضيف أو يغير ما قد توصلوا إليه واستقروا عليه، فقد قتلت تفاصيل تفاصيله بحثا وتوالت الأجيال من العلماء المجتهدين على دراسته وتمحيصه، ولا يمكن تصور خلاف ذلك، خصوصا في زمننا هذا الذي يعتبر بجدارة عصر الانحطاط المعرفي الشرعي بامتياز، كما أن الإسلام لا يقف على تفسير آية واحدة يمكن من خلالها أن ينتقض ركن من أركانه بسبب خطئ في فهما.
*سادسا: استند هذا الشخص المجهول* الذي لا يعرف له سند علمي ولا شهادة تخصصية والذي يلقي الأكاذيب والمعلومات المرسلة؛ استند على الترتيب المنطقي لظاهر كلامه وقلة المعلومات لدى المتلقي بحيث يصل به إلى هذه الغايات السابقة فيشككه في الإسلام ويصل به إلى الكفر والإلحاد. وعند العودة لتفاصيل المعلومات التي بنى عليها كلامه نجد أن المعلومات التي ذكرها بالأساس واستند عليها وتدرج بها للوصول للنتيجة هي معلومات كاذبة وغير صحيحة إطلاقا:
1- معنى النسيء ليس كما قال أنه زيادة شهر للسنة القمرية كل 32 شهر لكي تتطابق مع السنة الشمسية، فكل التفاسير والروايات تذكر أن النسيء هو ما كانت تقوم به العرب من تأجيل الأشهر الحرم لأشهر أخرى حتى يستطيعوا القتال فيها فيصبح صفر بدلا من محرم وهكذا، وفي كتب التفاسير تفاصيل دقيقة عن هذه المعلومة ومن من العرب بدأ هذه العادة تحديدا، ولا توجد أي معلومات عن المعنى الذي اخترعه صاحب الفيديو بدون اي دليل.
2- ركز صاحب الفيديو على كلمة (زيادة) و(يضل) في الآية الكريمة واختلافات القراءة فيها، وما ذكره غير صحيح فكلمة (زيادة) لا خلاف على قراءتها مرفوعة بين القراءات جميعها وكلمة (يضل) ليس كما قال بأن خمسة من القراءات جاءت بالكسر وبذلك تغير المعنى كما يدعي، والصحيح : أن أربع قراءات جاءت بضم الياء وفتح الضاد وقراءة واحدة بضم الياء وكسر الضاد والباقي بفتح الياء وكسر الضاد. هذا من حيث القراءة أما من حيث المعنى فكلها تؤدي لنفس المعنى وهو الضلال سواء كان الذين كفروا فاعلا أم مفعولا بهم، والمعنى الثابت الذي ليس له علاقة بكل هذه القراءات وواضح دون أي لبس هو قوله تعالى: “إنما النسيء زيادة في الكفر” ولا علاقة للذين كفروا بثبات الحكم أو عدمه وتغير المعنى أو عدم تغييره بسبب اختلاف القراءات، وكل ما قاله ما هو إلا كلام فارغ يهدف منه إضفاء المصداقية والأسلوب العلمي في الكلام دون أن يؤدي إلا معنى صحيح.
وفي كل الأحوال سواء صدقناه أو كذبناه في المعلومة التي قالها عن تعريف النسيء وأنه زيادة شهر كامل وليس تحويل الشهور الحرام إلى شهور أخرى ضمن الاثنى عشر شهرا كما يقول كل المفسرين، فالآية تمنع ذلك وتحرمه وتعتبره زيادة في الكفر، ولا معنى في اختلاف كون الكفار ضالين أو مضللين بالأمر.
3- ذكر صاحب الفيديو في سياق الكلام أن الصيد أصبح مباحا في غير موسمه بسبب تغير الشهور عن مواعيدها الصحيحة. وأعطى للمتلقي إيحاء بأن هذا الأمر له علاقة بالأشهر الحرم رغم أنه ليس كذلك. وهذا دليل أنه يتخبط يمينا ويسارا في موضوعات مختلفة حتى يحبك القصة ويوهم المتلقي أنه يبني الكلام بشكل منطقي ومرتب. والصحيح أن الأشهر الحرم في الشريعة الإسلامية ليس لها علاقة بالصيد من قريب أو بعيد وحرمة الصيد في الإسلام هي فقط في البلد الحرام (مكة)، وفي حالة الإحرام للحاج والمعتمر.
4- يلجأ صاحب الفيديو إلى المعلومات المرسلة غير المعزوة لمصدر وكذلك لصيغ للتعميم في كلامه دون أي دليل ودون إرجاع الكلام لمصدر محدد فيقول مثلا (معظم المؤرخين يقولون…) ولم يذكر لنا اسم مؤرخ واحد يقول ذلك.
5- اللجوء لمعاني أسماء الأشهر العربية بفصول السنة (شهر ربيع الأول) يكون في الربيع و(رمضان) في الصيف لأن معناه مشتق من الرمضاء، وربط ذلك بموضوع النسيئ في الجاهلية ليس عليه دليل أساسا وهو أسلوب ساذج في الاستدلال والوصول للمعلومة ويستهدف منها المتلقي البسيط الذي ليس له علاقة بالأسس العلمية لتلقي المعلومات.
*سابعا: تفسير القرآن الكريم علم مستقل* يستند إلى نوعين من التفسير وهو التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي ؛ أما التفسير بالمأثور فهو تفسير الآيات بما ورد في آيات أخرى في القرآن نفسه أو بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام والتابعين ثم من بعدهم كبار علماء التفسير في معنى هذه الآيات، أما التفسير بالرأي فهو ليس أمرا سائبا ليس له صاحب يقول فيه كل شخص برأيه الذي يعتقده وإنما يعتمد هذا التفسير على قواعد علوم القرآن الكريم وعلوم الشريعة، وإلى قواعد اللغة العربية وأقوال أهل اللغة في فهم هذه النصوص، ولا يجوز لأحد أن يفسر حسب رأيه ورؤيته الشخصية ومن هنا نفهم ما رواه ابن عباس عن الرسول صلى الله عليه وسلم : (من قال في القرآن برأيه) وفي رواية (من غير علم فليتبوأ مقعده من النار) رواه الترمذي وقوله صلى الله عليه وسلم : (من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) رواه الترمذي وأبو داوود فالمسألة ليست متاحة للجميع بل هي لكبار العلماء من المتخصصين المطلعين على المأثور والمنقول وكذلك الملمين باللغة العربية إلماما كاملا.
وفي النهاية يجب أن نعي أن الدين علم وهذا العلم قد بذل له العلماء والمتخصصون أوقاتهم وأعمارهم وخلفوا كتبا ومؤلفات تستند عليها الكليات والجامعات الشرعية ويعتمد عليها طلبة العلم الشرعي في كل مكان وتلقوه بصدر وعقل منفتح سعوا فيه إلا رضى الله سبحانه وتعالى للوصول للحق وأنه لا يوجد في الإسلام كهنوت ولا تناقل للشعائر دون بحث وتمحيص وفهم ووعي ومناقشة وعلم، وأن كل ما يريده لنا أعداء الإسلام أن تعتقد غير ذلك كي نضل عن الإسلام ونشك في ديننا من خلال هؤلاء الهواة المغررون التافهون.
يجدر الإشارة إلى أن هذا الفيديو يستند على طريقة محمد شحرور وعلي منصور الكيالي في تفسير القرآن حسب الأهواء دون اعتماد على علم أو هداية وهؤلاء مدعومون من جهات مشبوهة هدفها الطعن في الدين وتشكيك المسلمين في قرآنهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم.
ومن القنوات على يوتيوب المتميزة التي ترد على شبهات محمد شحرور ومنصور الكيالي قناة: مكافح الشبهات، وايضا قناة الشيخ الدكتور صهيب السقار. يمكن الرجوع لها لمعرفة فكر هؤلاء المجرمين الذين يسعون جاهدين لضرب الإسلام ولكن هيهات لهم ذلك.
على المسلم أن يكون واثقا من إيمانه معتزا به لا تهزه شبهات من هنا وهناك فإن حصل له ذلك عليه أن يرجع لأهل العلم وأن لا يناقش هذه الشبهات مع أي أحد غير متخصص فالعلم نور والجهل ظلام.