مقالاتمقالات تربويةمقالات فكرية

سياحة تدبرية للقيم في سورة النساء

 

د. يونس ملال

 

تناولت سورة النساء العلاقات الاجتماعية وكيفية إحكامها وتقويمها ، وبينت القيم التي تبني أسرة مستقيمة متينة، ومجتمعا فاضلا وأمة عظيمة، كما نبهت إلى خطورة غياب تلك القيم أو اختلال توازنها، مما  يحدث أزمة قيمية قد تعصف بالمجتمع والأمة، وبينت السورة ما يجب أخذه من احتياط على مستوى الفكر والتشريع والسلوك لتعزيز البناء وتجنب تهديد تداعي القيم الذي تمر به الامم عبر تاريخها ، وقد شكل الأسلوب القصصي في عرض تلك القيم وأسباب تأزمها ونتائج ذلك سمة عامة في السورة، تناول الحديث عن أربع فئات من الناس، اليهود والنصارى والمشركون والمنافقون، وتخلل الخطاب القرآني في الحديث عن هذه الفئات التفات إلى أمة الإسلام أن تلتزم قيم القرآن في العقيدة والشريعة والأخلاق وتتعظ بما حدث لتلك الأمم جراء أزمة القيم لديها مما جعل الموازين تنقلب فيها، سواء تعلق الأمر بالحق والباطل أم بالخير والشر أم بالخطأ والصواب..

والسورة الكريمة تناولت في ثلثها الأول الأسرة وقيم بنائها وما يمكن أن تتعرض له من هزات وكيف تعالج، باعتبار الأسرة نواة المجتمع،  فقررت المساوة بين الرجال والنساء في الآدمية والكرامة الإنسانية ” يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها”، وبما أن أمة الإسلام أمة جهاد يكثر الاعتداء عليها كما حدث عبر تاريخها المديد وما يزال، والحروب تترك آيامى ويتامى يكونون عادة مظنة ظلم وفساد وضياع في الأنفس والأموال والأعراض فإن السورة بدأت بعلاج هذه الظاهرة بجملة من القيم التشريعية والأخلاقية، كعدم الاعتداء على أموالهم فذلك حوب وتبدل للخبيث بالطيب، وكالقسط في اليتامى والحجر على السفهاء حفاظا على قيمة المال، وكالتعفف للغني والأكل بالمعروف للفقير.. بدءا من قوله تعالى ” وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب” إلى قوله تعالى ” وكفى بالله حسيبا” ..ثم فصلت الآيات أحكام الميرات بما يحفظ المال والعدل والتوازن بين ما يأخذه الناس وبين قوة القرابة والرحم من جهة والأعباء التي يتحملها المنفقون من جهة أخرى.. منبهة في الوقت عينه إلى مسألتي الدين والوصية..

ثم ترصد السورة جملة مما يتهدد دعائم الأسرة المبنية على المودة والرحمة والطهر، كالشذوذ الجنسي وإتيان الفواحش من قبل الرجال والنساء، وكالإكراه في الزواج والعضل وتوريث النساء كما يورث المتاع، والزواج بالمحارم ونشوز الأزواج وغير ذلك.. وبينت السورة القيم السلوكية لمحاربة هذه الآفات، بما حددت من عقوبات وبما فتحت للنادمين من أبواب التوبة، وبالصبر على المكاره فلعل فيها من الخير الكثير الذي يخفى على الناس ويعلمه رب الناس، وبزواج المحصنات وعدم الميل مع الشهوات، واحترام الرجال والنساء لفطرتهم وما يستتبعها من القوامة والإنفاق وتعدد الزوجات..

ثم توجهت السورة في تدرج بديع من الأسرة إلى المجتمع لقيم بر الوالدين وحسن الجوار والإحسان إلى الضعفاء ومن تقطعت بهم السبل، وترك آفتي البخل والرياء والتزام الإنفاق في سبيل الله، وهذه الفضائل والقيم  وإن كان مصبُها في المجتمع فإن منطلقَها من الأسر الفاضلة التي تتواصى على فعل الخيرات وترك المنكرات..

وهكذا تنتقل السورة بهذا الربط المحكم من الأسرة باعتبارها مجتمعا صغيرا إلى المجتمع باعتباره أسرة كبيرة لتعالج في الثلثين الباقيين قيم البناء الاجتماعي وما قد يعصف به من أزمات عبر الحديث عن الطوائف أو الفئات الأربع: اليهود، المنافقون، النصارى، والمؤمنون.

بدأ ذلك بالآية( 44، 45 )بالكلام عن اليهود ونصرتهم للمشركين في أسلوب تعجبي لافت ” ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب  يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا” فبين أزمتهم القيمية إذ تحجرت  قلوبهم فصاروا يسمعون ثم يعصون، يشركون ويفترون على الله الكذب، يعبدون المال ويحسدون الناس على فضل الله الذي آتاهم، ابتعدوا عن موازين العدل وأداء الأمانات إلى أهلها، ووصل بهم الأمر إلى نصرة وثنية المشركين على إيمان المؤمنين!! فقالوا إن هؤلاء المشركين من عبدة الأصنام أهدى من الذين آمنوا سبيلا، فلم يبق بعد ذلك من إيمانهم شيء، وكانوا معهم في خندق واحد .. وتخلل الحديث عنهم بيان الموازين الحق من: الإيمان والعمل الصالح وأداء الأمانات والعدل بين الناس وطاعة الله والرسول وتجنب الشقاق والتنازع.. فمرت السورة بصورة رائقة مركزة على عوامل البناء ومعاول الهدم في بنية المجتمعات ..

ثم، وبنفس الأسلوب التعجبي تناولت السورة الفئة الثانية فئة المنافقين في الآية (60 ،61) ” الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا” فبين أن القيم لا اعتبار لها عندهم، فهم يزعمون الإيمان ويبطنون الكفر ويظهرون المودة ويبيتون العداء، الكذب عدتهم الدائمة ويحلفون على الكذب وما عليهم أن لا يفعلوا؟ فهم لا يعظمون الله بل يصدون عن سبيله، لا أثر للإيمان في نفوسهم وسلوكهم فهم لا يطيعون الرسول ولا يحكمون شرع الله فيما شجر بينهم. ولأنهم يعيشون مع المؤمنين بالجسد وقلوبهم بعيدة عنهم، وكيدهم يخفى على كثير من المؤمنين، وجب التحذير منهم أكثر من غيرهم وبيان سبل تعامل المؤمنين معهم بالتفصيل وهو ما تكفلت به الآيات الكثيرة في السورة، التي مضت تفضح مسالكهم العرجاء، وأزمة القيم لديهم في انفصال القول عن الفعل، وذلك ما لو فشى في أي مجتمع لأهلكه..

ثم جاءت أحكام الهجرة في سياق يناسب المقام، فبقاء المؤمنين في مجتمعات الكفر التي تضيق عليهم إيمانهم قد تضعف الإيمان فيميل بأصحابه إلى النفاق إذا هم استحبوا الدنيا على الآخرة، ويضطر المؤمنين إلى أضيق الطرق، ويصيبهم بالعنت والمشقة، لذا جاءت الآيات تطلب منهم الهجرة وعدم البقاء في أرض الكفر الذي يجور عل الإمان وأهله، فأرض الله واسعة، ومن يهاجر فيها يجد مراغما كثيرا وسعة وبدائل وراحة وفوائد جمة ونعما لا تحصى، إلا من تعذر عليه ذلك من المستضعفين.. ثم تستطرد الآيات في أحكام الجهاد وكيفية الصلاة فيه مما يدل على الصلابة في الدين كقيمة عليا، ويقرب للناس معنى الموازنة بين الهجرة في الشدة والثبات في الجهاد لنشر الدعوة وتوسيع دار الإسلام .

ثم يجيء الكلام عن الفئة الثالثة وهي فئة من المسلمين ضعاف الإيمان، لم تتمكن قيمه العقدية والتشريعية والخلقية من قلوبهم بالقدر المطلوب فهم أميل إلى الدنيا من ميلهم إلى الآخرة، أقرب إلى الانتصار للقبيلة منهم إلى الانتصار للحق المجرد، وأقرب للنفاق منهم للإيمان، في قصة غريبة عميقة في المقابلة بين قيم الإسلام وقيم الجاهلية يأمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يكون خصيما لهم محاميا عليهم، لأنهم ضالون مضلون، فيعاتبهم عتابا شديدا وينصف يهوديا عليهم لأنه كان ها هنا صادقا وهم كاذبون، وهذه قمة عدالة الإسلام، فالقيم بما هي موازين للحق لا تترك في أيدي ضعاف الإيمان ومرضى القلوب الذين يختانون أنفسهم، وإلا تقوضت أركان قيم العدالة الاجتماعية في الأمة الإسلامية ودخلت في أزمة قيمية خطيرة، ولا يخفى أن هذا الأمر قد أصبح مشهودا في أمتنا للأسف، لما غاب وعيها عن تدبر آي القرآن وامتثال أمر الله.

لذا تواصلت الآيات متناولة قيم البناء الاجتماعي ومعاول هدمه، ومن ذلك عدم الإشراك بالله، وضرورة الاحتكام إلى شرعه، وتوخي العدالة بين الناس، وعدم الاستجابة لوساوس الشيطان المهلكة الغارة المضلة، والتمسك بالإيمان والصدق وعدم التردد بين الإيمان والكفر، والتزام العمل الصالح، والبعد عن الأماني، مع التأكيد المستمر أن المجتمع الفاضل نتاج أسرة كريمة قائمة بالقسط .. والتأكيد على أن المنافقين رأس كل بلاء وهدم للقيم.

ثم عادت الآيات في أواخر السورة للحديث عن أهل الكتاب من اليهود وضمت إليهم الفئة الرابعة وهم النصارى ، لتكشف وجها آخر لفسادهم القيمي عند أهل الكتاب جميعا يهودا ونصارى.

فذكر الله تعالى عن اليهود كفرهم، وقتلهم الأنبياء، وقسوة قلوبهم المغلفة بالآثام، وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح، وظلمهم الذي كان سببا في تحريم الطيبات عليهم، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه.. وذكر عن النصارى غلوهم في الدين، وإقحامهم عيسى على الألوهية بغير حق..وذلك وجه من فساد في القيم العقدية والتشريعية والأخلاقية لديهم.

لتختم الصورة بآية الكلالة في الميراث ربطا وإحكاما لآخر السورة بأولها.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا أرحم الراحمين

 

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى