صُنّاع المحتوى أم صِناعة القدوة؟
أ. وليد المغربي
في عالم السّرعة، ووسائل التّواصل الاجتماعي، يستطيع الكثير أن يخرجوا على الناس مُنظّرين، أو مُؤثّرين، ويُطلّوا على المَلايِين من خلال شاشتِهم الصغيرة أو الكبيرة، وبقليلٍ من الجهدِ أو كثيره، وببعض الكلام المُنمّق، إضافة إلى المونتاج، والمؤثرات الصوتية، والخداع البصري، والإعلانات المُموّلة، قد يؤثرون في الناس أيّما تأثير، ويشاركون في صنع رأي عام، وفي نشر الوعي أو تزيِيفه، وفي نشرِ القيم، أو محاربتها، وفي الدّعاية السّيئة، أو الدعوة الحسنة.
قد يكون هؤلاء الصنّاع ينطلقونَ بدافع الغَيرة على القضايا العادلة دينيّة أو وطنية، أو يدعون إلى الله تعالى بهذه الطريقة الجديدة، ويواكبون العصر بذلك مستفيدين من وسائله المُبتَكرة، وذلك أمرٌ حَسن طيّب.
أو يقتاتون بهذا المحتوى، ويطلبون به الرّزق، إذْ أصبح تقديم المحتوى وزيادة عدد المشاهدين من أبواب الرّزق الواسعة.
أو يكونون طلاب شُهرة، لتحقيق جاهٍ أو مكانة، وربما باتوا مدفوعي الثّمن، تتعدد ولاءاتُهم بحسب أولياء النّعمة.
وهؤلاء الصنّاع قد يهفت بريقُهم ويأفل نجمُهم ويَصدأ حديدُهم، إن تخلّى عنهم الدّاعمون.
ويفقد صانع المحتوى شعبيتَه وتأثيره بفضيحةٍ تظهَر، أو بزلّة تُتّبع، أو بإغلاقٍ لصفحته، أو حذف لقناته، أو قطع لراتبه، أو كشف لتبعيّته، وكثير من الصّانعين للمحتوى مشاركون في التّفاهات والمجون.
ومنهم صالحون لهم آثار حسنة شاعت بين الناس، وأفادوا الخَلق وأجادوا الصّنعة.
صانع المحتوى قد ينشأ في فترةٍ وجيزة إن أُتيحت له فرصة، وقد يتعب في مادته التي يُقدّمها، وربما أخذت منه وقتًا وأيامًا، خاصة إن كانَ يعمل لوحده، وربما يجد بُحّاثًا يبحثون له، وبالمال أو الدّعم ينجز الكثير، ولا يحتاج صانع المحتوى بعد ذلك إلا إلى بعض المهارات الشّخصية، كالخطابة، أو روح الدّعابة، أو فنّ الإلقاء، ولغة الجسد والإشارة، وتلوين الصوت و العبارة، وهي تحصل مع شيء من التّدريب والصّقل، وقد يستغني عن أغلب هذه الأمور بفريق محترف في التّصميم، والصوت والجرافيك.
ولكن مع التأثير الكبير لصنّاع المحتوى، فتأثيرهم لا يكون عميقًا ولا طويلَ الأمد، وخاصةً إن تناقضتِ المحتويات وتقابلت.
لن يصبح صانعو المحتوى قدواتٍ مُلهِمة، إلا إن تحلّوا بصفاتٍ تؤهلهم لأن يكونوا قدواتٍ بالفعل على أرض الواقع، فإذا كانُوها فذلك نورٌ على نور، وهو الشَّهدُ بالزُّبد وذاك قليل.
أمّا صناعة القُدوة، والرّواحل فذلك شأنٌ أرفع، وأثره أبقى وأنفع، ولو زال المحتوى تبقى الذّكرى.
القدوات تُلِهم الناس، وترنو إليهم القلوب، ويتأثر الناس بآثارهم ومآثرهم، وبكلامهم وخِلالهم.
والرّواحل والقدوات هم قليلٌ من قليل من قليل، كما قال رسول الله ﷺ ” إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِائَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً!”، وأثر هذا القليل كبير وكثير ﴿أمّا الزّبدُ فيذهبُ جفاءً وأمّا مَا ينفع الناسَ فيمكثُ في الأرض كذلك يضرب اللهُ الأمثال﴾
إذا فتّشتَ عن ملامحِ القُدواتِ في القديم والحديث، ستجد أمورًا وخصائص مُشتركةً فيما بينهم، وهناك خيط ناظم يجمع صفاتهم.
وبفضل الله تعالى فإنّ صفاتِ القدواتِ مكتسبةٌ يستطيع العامل لهذا الدّين أن يُحصّلها أو يُنمّيها، ويمكنُ أن يصبحَ واحدًا من القدوات الإصلاحية دينيًّا ومجتمعيًّا يصلح مجتمعه، ويدعو إلى الله على بصيرة، ويشارك في نهضة أمّته، إذا تحققت فيه هذه الخصائص.
هي صفاتٌ عشر، أو سمّها ملامح القدوة.
أولًا: الاستقامة الظّاهرة، فإن العقلاء يتّبعون الأخيار لا الأشرار، والبررةَ لا الفجرة.
وهي غالبًا ما تدلّ على صلاح الباطن واستقامته، وهي تستدعي الاقتداء، والتشبّه.
وحال القدوة يَسبق مقاله، واستقامتُه تسبق كلامه، وكما قيل: حالُ رجلٍ في ألف رجل أبلغ من مقالِ ألف رجلٍ في رجل!.
والاستقامة تفتح القلوب والعقول، وقد أُثرَ عن شيخِ الإمامِ مالك زيد بن أسلم -رحمهما الله- يقول: “ابنَ آدم اتّقِ اللهَ يُحبكَ الناسُ وإن كرِهوا!”
الاستقامة تفتحُ المغاليق وتذلل الصّعاب.
ثانيًا: تخصّصٌ علميٌّ، أو مَهاريّ يُتقِنه أو يبدع فيه، تتّجه به الأنظار إليه، ولو كان التخصّصُ صناعةً أدبية، أو قدرةً خطابيّةً لها تأثير تخضع لها القلوب وتخشع، مع الاطلاعِ الكافي والإلمام بالقضايا التي يدعو إليها.
ثالثًا: الاستمراريّةُ وعامل الزّمن في العطاء بالتأليف والكتابة، أو بالتّدريس والخطابة، أو بالمحاضرات والحوارات، أو العمل الميداني والحركة، ونشر الوعي والخير بأيّ وسيلة، والزّمن والاستمرار رصيدٌ مُتراكم لعلاج أدواءٍ كثيرة، وتحقيق أهدافٍ جليلة.
رابعا: الخطّ الثّابت في المواقف دون انحرافٍ أو زعْزعة، والشجاعةُ في الرأي دون تراجعٍ أو ضعضعة.
خامسًا: الأثر في الأقربينَ قبلَ الأبعدين ﴿وأنذرْ عشيرتَك الأقْربين﴾
﴿يا أيها الذين آمنوا قُوا أنفسَكم وأهلِيكم نارًا﴾
وقد قال سيدنا الصادقُ المصدوق ﷺ: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”
والتأثيرُ في الأقربين والحلقةِ المحيطةِ بالمصلح دليلُ صدقِ دعواه، وأيضًا هو معينٌ له على المَسِير قُدمًا في طريق الإصلاح، فهم الرّكن الرّكين له بعد الله سبحانه وتأييده، يسندُ ظهرهُ إليهم، ويعوّل عليهم، و يشاركونه همومَه الدعويّة والإصلاحية، وقد يُبتلى المصلحُ ببعض أقاربه وأهله، وقد حصلَ لبعضِ الأنبياء الكرام صلوات الله وسلامه عليهم.
سادسًا: مشاركة الناس همومَهم، والعيش مع قضاياهم، ولا يكون المصلحُ في برجٍ عاجٍ بعيدًا عنهم، يُنظّرُ ولا يَعمل، ويتكلّمُ ولا يَتقدّم، وكما قيل لتكونَ إِمامي كن أَمامي!.
سابعًا: البَيان والسهولة، والوضوح في تقديم أفكارِه ورؤاه الإصلاحية، من غير تعقيد، أو غموض أو مراوغة، حتى تصل دعوته لكلّ الشّرائح، والوضوح خيرُ معين على تجنّب كثيرٍ من الظّنون والرّيبة، التي قد تُعطّل دعوته، أو تقف دون انتشارها.
ثامنا: الأتباع أو التلاميذ الذين يُحِيطون به، وينشرون آثاره ويؤمنون بدعوته الإصلاحية، وينافحون عنها.
تاسعًا: الصّبر على الأذى واحتمال المشاقّ في سبيل الدعوة والإصلاح، سواء كان الأذى بالتّشويه، أو التّسفيه، أو الإعراض، أو الإيذاء البدنيّ.
سئل الإمام الشافعي -رحمه الله- أيُّما أفضل للرجل: أن يُمكّن أو أن يُبتلى؟ فقال الشافعي: “لا يُمكَّن حتى يُبتلى
فإن الله ابتلى نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهم، فلمّا صبروا مكّنهم، فلا يَظنّ أحدٌ أنه يَخلُص من الألم ألبتّة!”
عاشرًا: اليقين بنصر الله تعالى للمُصلحين، وبهلاك المفسدين والتحدّي بذلك.
قال جل وعزّ: ﴿ إنا لَنَنْصُرُ رسُلنا والذين آمنوا في الحياةِ الدّينا ويومَ يقوم الأشهاد﴾ وقال سبحانه:
﴿ إنهم لهم المنصُورون وإنّ جندنا لهم الغالبون﴾
والاعتقاد بأنّ الخسران للفاسدين والظالمين ﴿وإنّ الله لا يصلحُ عملَ المفسدين!﴾
﴿فهل يهلكُ إلا القومُ الفاسقون!﴾ وقد توعّد الله عزّ وجلّ الظالمين فقال: ﴿لنهلكنّ الظّالمين!﴾
تلك عشرة كاملة، وبها يكون المصلحُ قدوة، وقائدًا ومرجِعيّة، بل يكون إمامًا يرجع إليه الناس، ويصدرون عن رأيه.
وقد صدق الإمام ابن تيمية -رحمه الله- عندما قال: لن تنال الإمامة في الدّين إلا بالصّبر واليقين وقرأ قوله تعالى: ﴿وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا لمّا صبَروا وكانوا بآياتنا يُوقنون!﴾
ولذلك فإنّ أمّتنا وبلادَنا بحاجةٍ إلى قدواتٍ أكثر منها إلى صناعِي مُحتويَات، وهذا لا يقلل من شأنِ صانعِي المحتوى، فلهم تأثير كبير لا يُنكر، وينبغي الاستفادة منهم، ولكنْ رمزٌ واحد من الرّواحل وقدوة يعدل عشراتٍ من صنّاعِ المحتوى ربما المئات، وهذا الفردُ القدوة يدفع بالمئاتِ من الناس إلى صناعة المحتويات الهادفة في مسالك الخير، وسُبل الرّشاد، ويبقى العمل على صناعة القدوة يحتاج إلى جهدٍ أكبر ووقتٍ أطول، وعمل متواصل، وتوفيق مِن قبلُ ومِن بعد.
جعلنا الله هداة مُهتدين، وأدخلنا برحمتِه في عباده الصّالحين المصلحين!.