((إشكالية الأسس في الفتوى السياسية المعاصرة))
✍ د. سعد الكبيسي
الفتوى السياسية نوع من أنواع الفتوى المتعلقة بالشأن العام، وهي من أعقد أنواع الفتوى لاعتمادها على جملة من العناصر والمعارف المتعلقة بالدين والواقع، فهي في طبيعتها فتوى مركبة بسبب تركيب الشأن العام والمجال السياسي في العادة، كما أن الفتوى السياسية تعد الأكثر أهمية وأثرا على الدول والمجتمعات والحركات سلبا وإيجابا، لأنها متعلقة بمصائر ومفاصل كبرى لها.
ومنذ نهاية السبعينات أي قبل أربع عقود ونصف تقريبا، بدأت ملامح إشكاليات الفتوى السياسية، حيث مر العالمان العربي والإسلامي ومعه الجاليات المسلمة في البلدان غير المسلمة بمحطات وأحداث سياسية اقتضت أن يكون هناك فتوى تبين وجهة النظر الشرعية فيها، وكان أهم مظهر لهذه الأزمة هو الاختلاف الحاد في النظر للأحداث السياسية الكبرى على مستوى الفتاوى الفردية والجماعية معا.
إن أحداثا مثل اتفاقية كامب ديفيد ومقتل السادات والثورة الإيرانية والحرب الأفغانية والحرب العراقية الإيرانية والغزو العراقي للكويت وحرب تحريرها وعشرية الجزائر السوداء وحرب البلقان والشيشان واحداث الحادي عشر من سبتمر واحتلال أفغانستان والعراق وظهور الجماعات التكفيرية واندلاع الثورات العربية وتوصيف الأنظمة الحاكمة والعلاقات البينية مثل علاقة حماس بإيران وسلوك الدول المطبعة قديما مثل تركيا وما يصح منها وما لا يصح إلى آخر قائمة الأحداث التي تباينت فيها وجهات النظر.
وفي اعتقادي ان هذا التباين كان سببه الرئيس هو عدم وضوح بعض الأسس التي تبنى عليها الفتوى السياسية المعاصرة، والارتباك فيها أدى إلى الارتباك بمخرجاتها التي بنيت عليها، ونذكر من هذه الأسس:
1_ التمييز بين الثوابت والمتغيرات:
حيث إن التمييز بين أحكام الثوابت والمتغيرات السياسية ما زال يعاني من عدم الوضوح في كثير من الأحكام، فإما ثابت يعد من المتغيرات وهذا قليل، وإما متغير يتحول إلى الثوابت وهذا كثير، فمن عد هذا الحكم ثابتا عد الخروج عليه ضربا من اقتحام الحرام، ومن عد هذا الحكم متغيرا كان له أن يجتهد في تحريمه او جوازه حسب ميزان المصالح والمفاسد.
2_ العلاقة بين المبادئ والمصالح:
حيث هناك لبس كبير في العلاقة بين المبادئ والمصالح السياسية، فقد يعد مفتون اعتبار مصلحة سياسية مرحلية ما خرقا وانتهاكا للمبادئ، بينما يعدها آخرون نوعا من التكتيك المشروع لوجود الحاجات والضرورات الموجبة فهي لا تنافي المبادئ.
3_ التفريق بين زمن الاستضعاف والتمكين:
فمنظومة الأحكام الفقهية السياسية في زمن التمكين تختلف كثيرا عنها في زمن الاستضعاف، فزمن الاستضعاف مليء بالضرورات والإكراهات التي لا يمكن الإفتاء فيها بأحكام زمن القوة والتمكين والسيطرة، واستنادا للتفريق بين المرحلة المكية والمدنية.
4_ نسبية المصالح والمفاسد:
فكثير من أحكام الفقه السياسي مبنية على المصالح والمفاسد وليس على النص الصحيح الصريح، ولأنه لا توجد مصالح محضة ولا مفاسد محضة ولأن المصالح والمفاسد في تعارض مستمر، فإن تقديرها سيتغير بحسب الزمان والمكان والأشخاص والظروف، وهذا التغير هو ما عنيناه بالنسبية، فما يراه مفتو بلد قد لا يراه مفتو بلد آخر، استنادا لنسبية تقدير المصالح والمفاسد، لكن هذه النسبية لم تحل دون تبادل النقد للفتاوى بين الطرفين.
5_ نوع التعامل مع التراث السياسي:
فقد نجد فئتين من العلماء والمفتين في التعامل مع التراث السياسي الإسلامي العريق:
فئة العلماء المحافظين الذين يعتمدون اعتمادا كبيرا على ما قاله الجويني أو الغزالي أو الماوردي او ابن تيمية، ويحاولون إنزال أقوالهم على الواقع المعاصر.
وفئة المنفتحين الذين لا يجدون غضاضة ولا حرجا في تجاوز أقوال الأقدمين استنادا إلى تغير الواقع المعاصر، وعلى أحقية المعاصرين في الاجتهاد وليس نقل القول او الفتوى فقط عن السابقين.
6_ الصراع بين المفتي والسياسي:
وهنا نقصد بالسياسي هو السياسي الذي يعتمد المرجعية الإسلامية في الفتوى والرأي السياسي، حيث يقول السياسي: إن المفتي لا يدرك الكثير من إكراهات السياسة ولهذا فهو يجنح للفتاوى الحادة غير المرنة، بينما يقول المفتي: إن السياسي يريد التفلت من كثير من الأحكام بحجة الضرورات والإكراهات غير المبررة.
ونكتفي بذكر هذه النماذج الست للأسس التي نعتقد أن الإشكالية في الفتوى السياسية المعاصرة نتيجة لها، فهي أسس فيها كثير من اللبس وعدم الوضوح وغياب الاتفاق، مما يحدونا إلى النظر في هذه الأسس من خلال دراسات سياسية شرعية تحليلية أعمق من تلك التي تكتفي بالوصف والعرض السطحي.