عندما يسير التاريخ إلى الوراء (1-2)
أ. محمد خليفة نصر
المقصود بالتاريخ في هذا الحديث هو النشاط البشري. والسبب في هذا التأكيد منذ البداية هو أن بين المفكرين من يجعل من التاريخ إلهًا! ومن هؤلاء هيجل الذي يتحدث عن “مكر التاريخ” مثلما يتحدث القرآن عن “مكر الله”! ولا يتحدث هيجل عن “مكر التاريخ” وحده، بل يقرنه بـ”مكر العقل” انطلاقًا من فكرة وحدة الوجود، التي تجعل من الله والعقل والتاريخ شيئًا واحدًا! نهاية هذه المقدمة أو خلاصتها هو عدم إيماني بغير النشاط البشري تعريفًا للتاريخ.
ومثلما يسير النشاط البشري -وهو انعكاس للفكر البشري- إلى الأمام يسير إلى الوراء، والمدرسة الهيجلية ومن بعدها الماركسية لا تؤمنان بسير التاريخ إلى الوراء، وأنا بموقفي هذا اعبر عن القطيعة معهما، والاستقلال عنهما، في تأويل أحداث التاريخ.
والقصد من وراء كل هذا هو بيان كيف انقلب اتجاه سير السياسة الاسلامية، بعد الخلافة الراشدة، إلى الوراء ليمسي خلفاء المسلمين ملوكًا، ويصبح الكثير من المسلمين “أهل كتاب”، وإذا بالفروق الجوهرية بين المسلمين و”أهل الكتاب” تختفي واحدة بعد الأخرى، وعلى النحو الذي سنراه بعد استعراض مفردات انقلاب الخلفاء ملوكًا!
أولاً. انقلاب الخلافة ملكًا.
كان أنبياء بني إسرائيل ملوكًا، وأشهرهم داود وسليمان بن داود. وقد رأى موسى عليه السلام هذه المنة عندما قال لقومه: “يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكًا وأتاكم ما لم يؤتِ أحدًا من العالمين”!
من الناحية الدينية إذن؛ بالإمكان أن يكون حاكم المسلمين ملكًا. أو بكلمات أخرى؛ كون حاكم المسلمين ملكًا لا يؤثر في إسلامه، لكن هذا النوع من الحكم متخلف جدًا مقارنة بالتقدم الذي حققه الإسلام في المجال السياسي، إذ كان القادم على المدينة يدخل المسجد ويسأل “أيكم محمد”، لعدم تميزه صلى الله عليه وسلم عن صحابته بعرش أو كرسي. وكانت المساواة بين المسلمين تامة والتفاوت بينهم فقط بالسبق إلى الإسلام والهجرة إلى الله ورسوله. وكان ذات النمط سائدًا طوال الخلافة الراشدة التي انتهت بانتهاء جيل الصحابة وابتداء جيل التابعين.
ولعله من المفيد تذكير القارئ بأن النبي عليه الصلاة والسلام قد قال: “الخلافة ثلاثون سنة…”، وأنه قال: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة… أولها الحكم وآخرها الصلاة”، وأنه قال: “عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي شدوا عليها بالنواجذ…”! وسنة الخلفاء الراشدين ليست سنة عبادات وإنما سنة معاملات، أو سنة سياسية بلغة هذه الأيام، وقوامها البيعة والشورى.
وبتولي معاوية بن أبي سفيان انتهت الخلافة وبدأ الملك، وقد تأكد هذا المنحى بتوريث المُلك ليزيد بن معاوية، وهو المولود في خلافة عثمان رضى الله عنه، ومازال في الصحابة من هو أفضل منه وعلى رأسهم عبد الله بن عمر.
ولم تكن هذه الأمور قضايا غامضة في حينها، ولم يخفها عن أعين الصحابة شيء فسعد بن ابي وقاص دخل على معاوية وسلم عليه بالملك قائلاً متهكمًا: “السلام عليك أيها الملك”! فقال معاوية:” فهلا غير ذلك؟ أنتم المؤمنون، وأنا أميركم، فقال سعد: نعم إن كنا أمرناك!” والمعنى أننا لم نؤمرك بل أخذتها عنوة، ولذا أنت ملك ولست خليفة، فالخليفة من بايعه المسلمون عن رضى وبعد مشورة!
وعندما أراد معاوية توريث يزيد الملك وأعلن مروان بن الحكم في المدينة نية معاوية توريث ابنه لأن في ذلك صلاح الأمة قام عبد الرحمن بن أبي بكر وقال لمروان في حضور الجميع في المسجد: “كذبت والله يا مروان وكذب معاوية، ما الخير أردتما لأمة محمد ولكنكم تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل”.
لقد كان التحول صادمًا وعنيفًا حتى أنه يعرف في التاريخ الإسلامي بـ”الفتنة الكبرى”، فهو ليس فتنة هينة وإنما في مسألة جوهرية وهي “الإمامة”! واستمر الأمر على ذاك النحو حتى تقرر لدى الشهرستاني في القرن السادس أنه “ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة”! وما زال الأمر على ذاك النحو حتى يومنا هذا، ولم يفطن أحد إلى أن المسلمين قد ساروا إلى الوراء وراء حكامهم الذين أصبحوا ملوكًا مثل ملوك بني اسرائيل. ومع طول العهد تحول الكثير من المسلمين إلى أهل كتاب، يسيرون سيرة بني اسرائيل وهم لا يشعرون، لأنهم ببساطة على دين ملوكهم!
ثانيًا. انقلاب المسلمين “أهل كتاب”.
إذا استعرضنا خصائص أهل الكتاب نجدها الآتية: 1) نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، 2) اتخذوا احبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، 3) أكلوا السحت، وشربوا الخمر، وقالوا ليس علينا في الأميين سبيل.
وإذا نظرت إلى المجتمعات المسلمة اليوم تجد أن خصائص أهل الكتاب هذه قد اجتمعت وتفشت فيها حتى أصبح المسلمون شركاء لأهل الكتاب في ممارستها دون أدنى شعور بالحياء.
وفي ذات السياق؛ لا اعتقد أن نبذ كتاب الله مما يحتاج إلى اثبات. وأكل السحت وشيوع الزنا والقمار وشرب الخمر مما تنظمه القوانين وتحرسه حكومات هذه وظيفتها، بالرغم من أنها في بلاد المسلمين. الجديد هو ظهور بعض ممن يسمى “علماء المسلمين” بمظهر وسلوك احبار اليهود ورهبان النصارى الذين اتخذهم أهل الكتاب أربابًا (يحلون الحرام ويحرمون الحلال) من دون الله.
وفي هذا السياق ظهر في الفضائيات بعض احبار المسلمين الذين ورثوا مهام أحبار أهل الكتاب في تحليل الحرام للملوك وتحريم الواجب على المسلمين. ومن ذلك قولهم إذا رأيت الحاكم يسكر ويزنى في التلفاز لنصف ساعة كل يوم لا تعترض عليه. وفي هذا شرعنة للفسوق والعصيان من جانب، ونهي عن “النهي عن المنكر” من جانب آخر. وهذا مما سبق فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام “لتتبعن سنن من قبلكم… قالوا اليهود والنصارى يا رسول الله؟ قال فمن الناس…؟”
وحيث لا يتسع المقام للإطناب في هذا المقال، سأقف على مثال واحد ينمحي فيه الفرق بين بعض المنتمين للإسلام وأهل الكتاب، وهو الضراوة التي تُحارب بها كل تجربة إسلامية وعلى رأسها “الصيرفة الإسلامية” التي سأقف على الدروس المستخلصة منها.
وأنا لست من أهل الاختصاص في موضوع الصيرفة الإسلامية، وغرضي ليس الدفاع عنها وإنما مناقشة الذين يرومون إلغائها، حتى يستمر أكل السحت والتعامل بالربا في بلاد المسلمين، ولينمحي بذلك الفرق بين المسلمين وأهل الكتاب في باب الأموال. ولا شك عندي في أن تجربة الصيرفة الإسلامية يمكن نقدها ويمكن تحسينها لتجاوز أي قصور قد يصيبها من ناحية التصور أو التطبيق، والمعركة ليست مع من ينتقدها لهذا الغرض، بل المعركة مع الذين يهاجمونها بسوء نية قصد إلغائها. وهذا الطرف يحرك الغافلين من المسلمين ضد التجربة فيتحولوا إلى مغفلين يحاربونها في بلاد المسلمين، بينما تنعم التجربة بهدوء واستقرار في بلاد غير المسلمين.
الغافل من المسلمين يتحول إلى مغفل بسهولة لأنه على غير اطلاع على سوء نية أهل الكتاب ومن لف لفهم من المسلمين الذين أصبحوا يقفون مع عبَد الطاغوت صفًا واحدًا في المعركة على أي ظاهرة إسلامية وإن كانت من نوع إنشاء صندوق لجمع أموال الزكاة وتوزيعها على مستحقيها.
لو كان الذين يهاجمون الصيرفة الإسلامية من المسلمين حسني النية، ومن المخلصين، لسعوا إلى إيجاد نظام بديل عن النظام الربوي، ولسعوا إلى تطوير التجربة حتى تتجاوز أي قصور أو مخالفة، لكنهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون وقفوا إلى جانب النظام الربوي العالمي، والجميع يعلم من يقف على رأسه، وانحازوا إلى غير المسلمين فكانوا بذلك من الذين قال الله فيهم: “ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرًا”.