عندما يسير التاريخ إلى الوراء (2-4)
ا. محمد خليفة
هذا المقال إجابة عن سؤال لم يسأل بعد وهو: لماذا لم تدخل أوربا الإسلام؟
عندما استلمت أوربا الناهضة مشعل الحضارة من المسلمين الذين أفل نجمهم في النصف الأول من الألفية الثانية، اختارت أوربا أن تسير إلى الوراء وليس إلى الأمام. وكان صاحب التأثير الذي فرض هذا الخيار هو المنظمة العالمية للصد عن سبيل الله (الكنيسة). وحتى أبين كيف سارت أوربا إلى الوراء سأستعرض تاريخها وهي تسير إلى الأمام حتى استلم منها المسلمون مشعل الحضارة أولاً. ثم ابين كيف تعاضد العقل والوحي، بشكل لا سابق له، في الحضارة الإسلامية ثانيًا. ثم ابين بعد ذلك كيف اتجهت النهضة الأوربية إلى الخلف، وسارت في عالم الأفكار إلى الوراء، عند استعادتها مشعل الحضارة من المسلمين ثالثًا.
أولاً. مسيرة أوربا إلى الأمام.
لا شك أن الحضارة الأوربية قد استفادت من الحضارات الشرقية، بطريقة أو بأخرى، لكنها احتفظت بشخصيتها الاغريقية-الرومانية، وظلت في صلبها إغريقية حتى بعد أن انقلبت يهودية-مسيحية. وما سأهتم له الآن هو مسيرة التقدم في الفكر الإغريقي، الذي انتقل من الأسطورة إلى السفسطة، ثم من السفسطة إلى الفلسفة.
أ) من الأسطورة إلى السفسطة.
1) حقبة الأسطورة. وتمتد هذه الحقبة بين القرنين الثاني عشر والسادس قبل الميلاد. وما ميز هذه الحقبة أن الدين كان فيها جزءًا من الأساطير التي نظمت في أشعار وقصائد بلغ بعضها ألاف الابيات. وأهم الأساطير في هذه الحقبة “الالياذة” و”الأوديسا” لهوميروس، و”تناسل الآلهة” لهزيود. ولم يكن الدين في هذه الحقبة جزءًا من الأساطير فقط، بل كان متعدد الالهة كذلك. وقد قيل إن عدد آلهة الإغريق قد بلغ في ذاك الزمن ثلاثة وثلاثين ألفًا، كبيرهم زيوس.
2) حقبة السفسطة. وتغطي هذه الحقبة فيما يخصني ما يسمى تقليديًا ما قبل سقراط. والمقصود بالسفسطة لغويًا الاشتغال بالحكمة ممارسةً وتعليمًا. ويسمى صاحب هذه الممارسة سفسطائي(Sophist) . وقد عيب على السفسطائيين تعليم الناس الجدل والخطابة للانتصار في المناظرات الكلامية والمعارك السياسية، دون اكتراث للحقيقة، وأخذ مقابل عن ذلك. وبالرغم مما سلف؛ لهذه الحقبة التي امتدت لقرون أثر كبير في عالم الأفكار التي مازالت متداولة إلى يومنا هذا، وسأوجزها على النحو الآتي؛
• التنظير. بدايته في هذه الحقبة؛ ومن منا لا يذكر نظرية فيثاغورس (570-495 ق م).
• تعدد الآلهة. رفض زينوفانس فكرة تعدد الآلهة وقد عاش هذا المفكر بين (570-480 ق م).
• اللوغس. مصطلح جامع للعقل والمنطق والحساب ومصدره هيراقليطس (535-470 ق م).
• تأليه العقل. نظرية اغريقية قائمة على أن العقل هو الذي نظم كل شيء والعلة لجميع الأشياء، ومصدر هذه النظرية أناكساغوراس (500-428 ق م)
• الإنسان. هو المقياس لجميع الأشياء، بما في ذلك الآلهة، عند بروتاغوراس (487-420 ق م).
هذه الأفكار ذات أهمية ومازالت متداولة إلى يومنا هذا، ولكن سأقف عند رفض زينوفانس لفكرة تعدد الآلهة، والقول بضرورة إله واحد. إذ كان على الفكر البشري أن ينتظر ألف سنة بعد زينوفانس حتى ينتقل من “رفض تعدد الآلهة” إلى “نفي تعدد الآلهة” واثبات الوحدانية لله وحده، عند ظهور الإسلام. ومختصر نفي تعدد الآلهة واثبات الألوهية لله وحده هو شهادة أن “لا إله إلا الله”. وعلى هذا النفي والاثبات أنبنى نظام عالمي (اسمه الإسلام) وشهدت الدنيا حضارة تأسست في كل تفاصيلها على ذاك النفي والاثبات، واسمها الحضارة الإسلامية. هذه الحضارة استلمت العقل البشري حول المتوسط عند آخر نقطة تركه عندها الفكر الإغريقي وسارت به مسافات فلكية إلى الأمام. وهو ما سأعود إليه بعد الفراغ من مغادرة الفكر الاغريقي لحقبة السفسطة والانتقال إلى “حب الحكمة” دون مقابل وهو “الفلسفة”.
ب) من السفسطة إلى الفلسفة.
في حوالي سنة 500 ق م ظهر مصطلح “اللوغس” Logos الذي يترجم إلى “كلمة” و”كلام” و”عقل” و”منطق” و”حساب”. ومن غرائب هذا المصطلح أنه أصبح أسمًا للمسيح بعد تحول أوربا إلى المسيحية، وتُرجم إلى علم “الكلام” و”المنطق” عند المسلمين عندما وصلتهم فلسفة الاغريق وترجمت كتبها إلى العربية.
ويعد ظهور هذا المصطلح النقطة الفاصلة، أو الحلقة الواصلة، بين عصر الاسطورة وعصر العقلانية عند الاغريق، والتي يعبر عنها عادة بثنائية التناقض بين العقل والأسطورة(Logos-Mythos) . وبذا نرى التقدم الفكري المحرز في هذه الحقبة التي يشار إليها عادة بفلسفة أو فلاسفة ما قبل سقراط، التي لم يبق منها شيئًا مكتوبًا سوى شذرات، ولم يترك سقراط نفسه شيئًا مكتوبًا لكن تلميذه افلاطون دون محاوراته من بعده على النحو المعروف.
ويعد افلاطون وتلميذه أرسطو قمة الفلسفة الإغريقية، وقد انتهى افلاطون إلى “الواحد” وانتهى أرسطو إلى “الأول”. ومن بعد جاء الإسلام ليجمع الواحد والأول في “الأحد”، في سورة الإخلاص تحديدًا. وبذا شهد الفكر البشري نقلة شاسعة إلى الأمام، وولدت الأمة التي ستحمل مشعل الحضارة لألف سنة، ثم تسترده منها أوربا مرة أخرى دون أدنى اعتراف بالجميل، وهذا هو ما يسمى الجحود أو الكفر، الذي سنراه في موقف الكنيسة لاحقًا. لكن لنبقى الآن مع اختلاط الحق بالباطل في الفلسفة الإغريقية، وهو ما مثل معضلة كان على الحضارة الإسلامية الناشئة التعامل معها.
ثانيًا. تعاضد العقل والنقل في الإسلام.
قد يكون من المناسب هنا التذكير بمقولة الجابري: “التفكير في العقل درجة من المعقولية أسمى … من درجة التفكير بالعقل”! وقضية “العقل” كمفكر فيه لم تكن من القضايا التي تصدى لها الوحي بشكل مباشر، من أول يوم، مثلما كان الحال مع فكرة الأسطورة التي وضعتها قريش أمام الدعوة فتصدى لها القرآن فورًا بالنقاش والدحض، ليزيحها من أمام العقل السليم.
أ) قضية الأسطورة. واجه القرآن لحظة نزوله ظاهرة اختلاط الدين بالأساطير التي كانت منشرة بالفعل قبل الإسلام. وكان مما أثارته قريش في وجه الدعوة أن القرآن من “أساطير الأولين”! وفي هذا السياق كان القرآن فرقان ما بين الدين والأسطورة لأول مرة في تاريخ البشرية. وقد عالج الوحي فرضية الاسطورة في سورة الفرقان، بين آيات متفرقة في سور أخرى تصدت للمسألة ودحضت الفرضية. ولذا لم يحفل المسلمون بأساطير الاغريق ولا أشعارهم، بل كان جل اهتمامهم بما سمي “العلوم العقلية” التي كانت في حينها من مفردات الفلسفة التي تصدر عن النظر العقلي بشكل حصري. وهذا يعيدنا إلى قضية العقل التي بدأت تفرض نفسها على بساط البحث ولا سيما في العصر العباسي.
ب) قضية العقـل. في السياق الإغريقي التفكير في العقل تفكير في الله، فـ”العقل يحكم العالم” مقولة اغريقية معبرة عن فكرة وحدة الوجود التي ما انفكت تحكم العقل الأوربي والفكر الغربي بين افلاطون ويومنا هذا!
وكان دخول الفلسفة الإغريقية دائرة الفكر الإسلامي إعادة طرح لمسألة الألوهية من جديد ومن زاوية جديدة، هي زاوية النظر العقلي الصرف. وترتب على هذا التحدي ظهور علم الكلام، بما هو”دفاع على العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية” حسب عبارة ابن خلدون. ولذا تكاثرت “مجالس الكلام” في العصر العباسي، وكان شرط الاشتراك فيها