عام

دماء إسماعيل هنية.. هل توحد الأمة؟

 

د. علي جمعة العبيدي

تقول الحكمة العربية “لكل امرئ من اسمه نصيب” وهذا كان نصيب إسماعيل هنية من اسمه، فقد كان كالنبي إسماعيل في الفداء وأخذ الهناء بالشهادة، فهو رجل رفض أن يموت موتة طبيعية ويذهب بل كان موته استشهاداً والصلاة عليه توحيداً لصفوف الأمة.. فقد خرج من أرض المقاومة في غزة قبل بضعة سنين، واستشهد في طهران وصلى عليه مرشدها ليكون مشهد الصلاة عليه خير مشهد يوضح توحد الأمة هذه المرة بطرفيها السني والشيعي لتوضع الحروف الأولى على بداية نهاية فصل دموي من فصول تاريخ هذه الأمة.

الصراع الطائفي ليس حكراً على المسلمين أو العرب، فقد شهدت أوروبا منذ القرن السادس عشر وحتى مدة متأخرة صراعات دينية بين الطوائف المسيحية، مثلاً: الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت استمر قرناً من الزمن راح ضحيتها ملايين البشر، والقرون الوسطى في أوروبا كانت تُعرف باسم “قرون الصراع من أجل الرب” ويعد قادة الحملات العسكرية أنهم يقدمون أجسادهم من أجل أن تسيطر الكنيسة على الحياة، وكل طرف كان يرى نفسه هو الذي على حق وأن الجنة له وحده ولخصمه العذاب الأبدي، واليهود هم أيضاً عاشوا مدداً بعيدة من الصراع الديني الداخلي وحتى الآن بعض حاخامات الحريديم يكفرون غيرهم من أبناء الدين نفسه، وبالتالي محاولة لصق الحروب الطائفية بالعرب والمسلمين هي أنها محاولة فاشلة وغير صحيحة أيضاً.

الصراع الطائفي عربياً وإسلامياً كان في البداية على مستوى الدولة الواحدة، مثلاً العراق شهد صراعاً طائفياً استمر منذ عام 2006م حتى نهايات 2008م ووقتها قدم الشعب خيرة شبابه ضحية لهذا الصراع الذي لا فائدة منه غير تدمير البلاد وهلاك العباد، وأذكرُ هنا قصة دبلوماسي عراقي إذ قال لي: إنه تربّى في شارع ببغداد جيرانه إلى اليمين من طائفة غير طائفته وإلى اليسار من قومية غير قوميته، ومقابل منزله كانت هناك عائلة مسيحية، وأنه مع اندلاع الحرب الطائفية الكل بدأ يقتل بعضه بعضاً، وفجأة بات الشارع فارغاً من هذا التنوع الجميل وأصبح لوناً واحداً، وكل منطقة باتت بلون طائفي أو ديني أو عرقي واحد وفقدت البلاد التناغم الديني والطائفي والعرقي الذي كان تتمتع به شوارعها وأزقتها.

الربيع العربي حمل خيرات كثيرة لا يمكن لنا أن ننكرها فقد أسقط دكتاتوريات لم يتوقع أحد أن تزول، لكنه بالوقت نفسه كان بوابة لدخول الإرهاب الديني إلى العالم العربي المتمثل بـ “داعش”، فقد كانت هذه الجماعة خير دليل على تشويه اسم الدين فاسمها “الدولة الإسلامية في العراق والشام” أي رُبطت الجرائم كلها التي ترتكبها الجماعة باسم الإسلام، وقادتها جميعهم حملوا أسماء الصحابة رضوان الله عليهم، ليتم أيضاً ربط أسماء رجال من خيرة الأمة بأشباه الرجال من شرها، وهذه الأمور كلها تبلورت في اللاوعي في الشارع العربي والإسلامي عموماً والغربي خصوصاً.

في سنوات الحرب الطائفية في عالمنا العربي خسرنا ملايين الشبان سواء مع الجماعات الإرهابية أم من الجيوش العربية أم من المدنيين، هؤلاء كانوا طاقة كبيرة للأمة من أجل نهضتها، فالشاب الذي تحول إلى مقاتل في صفوف “داعش”، كان من الممكن أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو دبلوماسياً، أو يكون شاباً مهنياً نجاراً أو حداداً يفيد الأمة بمهنته أو على الأقل لا يدمرها أو يضرها، والجندي كان من الممكن أن يستمر بحياته وتنتهي خدمته العسكرية ويعود إلى حياته المدنية، وهذه الحروب أنهكت الأمة مادياً أيضاً، وكثيرة هي الأمور التي دُفِعتْ عليها الأموال من أجل تأجيج النار، لو دُفِعتْ في مكانها الصحيح لرأينا مجتمعاً عربياً غير ما نراه الآن.

أحياناً هويتنا تكون سبب موتنا أو أن نصبح مجرمين، فمن تعصب لقوميته ليس بعاقل ومن تعصب لدينه أو مذهبه هو مجنون، ويجب أن تكون الآية الكريمة في سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾. هي دستورنا في الحياة فلم يقل الله سبحانه وتعالى أكرمكم عندي صاحب هذا المذهب أو ذاك، بل قال أتقاكم، والتقوى في الإسلام هي فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، وفي اللغة هي أن يجعل الشخص وقاية بينه وبين ما يخافه ويحذره فقط. وأيضاً علينا أن لا ننسى حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عندما قال: “النّاسُ سَواءٌ كأسنانِ المُشطِ”، وكلمته لسلمان الفارسي عندما قال: “سلمان منا آل البيت”، والنبي كان هاشمياً قرشياّ، وجعل سلمان من آل بيته عليهم السلام.

فالأمور التي تربطنا أكبر من التي تفرقنا والتفاصيل التي تجمعنا أجمل بكثير من التي تمزقنا، وانظروا كيف تطورت أوروبا وأصبحت القارة حُلمًا للكثير من شبابنا اليوم، فقط لأنها تركت صراعها الطائفي الدموي خلف ظهرها والتفتت لبناء نفسها، على الرغم من أن ما يفرق بينهم أكبر مما يجمع، ونحن بخلافهم ما يجمعنا أجمل وأعمق وأمتن مما يفرقنا، ربما هذه الأجواء الإيجابية التي تعيشها دول المنطقة من طهران إلى الرياض وصولاً إلى أنقرة وأبوظبي والدوحة والقاهرة وطرابلس تكون نقطة بداية لتاريخ إيجابي جديد يكتب لعالمنا العربي والإسلامي.

د. علي جمعة العبيدي
دبلوماسي ليبي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى