الرجاء في الله تعالى .. عبادةٌ جليلة
د. علي محمد الصلابي
إن الرجاء في الله من أعمال القلوب الجليلة التي تبعث على العمل والجدّ وحسن الظن بالله، وهو الأمل وعدم اليأس، والتوقع لمَا فيه خيرٌونفع، وبه يتعلق القلب بحصول محبوب مرغوب مستقبلاً، فالإنسان بلا أمل أو رجاء يضيق في وجهه كلّ واسع ويبعد كلّ قريب، ويعسر كلّ ميسور. فإن الرجاء ضروري للسائر إلى الله والعابد لربه، لو فارقه لحظة تلفَ أو كادَ يتلف؛ لأن المسلم يدور ما بين ذنبٍ يرجو غفرانه، وعيبٍ يرجو إصلاحه، وعملٍ صالح يرجو قبوله، واستقامةٍ وهداية يرجو حصولها وثباتها، وقربٍ من الله يرجو الوصول إليه.
والرجاء في الله: هو الاستبشار بجود الله وفضله، والطمع بإحسانه وعطائه، وتعلّق القلب به، والشعور بالثقة والطمأنينة لحصول ما عند الله من الخير والنعيم في الدنيا والآخرة، حيث يرجو المؤمن من الله المغفرة وعدم دخوله النار وتحريمها عليه، فيسعى بأخذ الأسباب التي تمنعه من دخوله النار واستحقاق عذاب الله، ويعمل ويرجو القبول منه سبحانه، وإذا أذنب تاب ورجا التوبة وقبولها من الله تعالى، قال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين: “أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصلح إلا مع العمل”، حيث دلّ على ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110] (ابن القيم، مدارج السالكين، ص1414).
ينبغي للعبد أن لا يعلّق رجاءه إلا بالله ولا يخاف من الله أن يظلمه، فإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، بل يخاف أن يجازيه بذنوبه، وهذا معنى ما روي عن علي (رضي الله عنه) أنه قال: «لا يرجونّ عبدٌ إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» (ابن أبي شيبة، كتاب الزهد، ج13 ص283 -284)، وفي الحديث المرفوع إلى النبي ﷺ أنه دخل على مريض فقال: «كيف تجدك؟ فقال : أرجو الله وأخاف ذنوبي، فقال: ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف» (رواه ابن ماجه في كتابه الزهد، ج2، 1423).
فالرجاء هو التعلق بالله، وعدم التعلّق بمخلوق، ولا بقوة العبد ولا عمله، فإن تعليق الرجاء بغير الله إشراك، وإن كان الله قد جعل لها أسباباً، وهو لا يحصل ويبقى إلا بمشيئة الله تعالى، ولهذا قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَىٰ رَبِّكَ فَارْغَب﴾ [الانشراح : ۷ – ۸]، فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: ٢٣].
فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته أو عمله أو علمه أو حاله أو صديقه أو قرابته أو شيخه، غير ناظرٍ إلى الله؛ كان فيه نوع من التوكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقاً أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه؛ وكلما قوي الرجاء وطمع العبد في فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته، قويت عبوديته له وحريته مما سواه، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يــوجب غنى قلبه عنه، كما قيل: (استغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلىمن شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره)، فكذلك طمع العبد في ربه ورجاءه له يوجب عبوديته له، وإعراض قلبه عن الطلب من الله والرجاء منه يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله سبحانه (ابن تيمية، العبودية، ص58 – 61).
قال الله تعالى: ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57]، فابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة، وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث: «لا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُم إِلَّا وهو يُحْسِنُ الظَّنَّ بَرَبِّه»[أخرجه مسلم برقم: 2877]، وفي الصحيح عنه ﷺ يَقولُ الله: «أنا عِندَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ» [أخرجه أحمد برقم: 16016]. فالرجاء حادٍ يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير.
قال أبو علي الروذباريُّ (رحمه الله): “الخوف والرجاء كجناحي الطائر؛ إذا استويا استوى الطَّيرُ وتَمَّ طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت“. قال يحيى بن معاذ(رحمه الله): “يكاد رجائي لك مع الذُّنوب يغلب على رجائي لك مع الأعمال؛ لأنّي أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص، وكيف أحرزها وأنا بالآفات معروف؟ وأجدني في الذُّنوب أعتمد على عفوك، وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف؟“. (مدارج السالكين، ابن القيم، ص 1416). وفي الحديث الصحيح القدسي عن النبي ﷺ،فيما يروي عن ربه: (يا ابنَ آدَمَ، إِنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غَفَرْتُ لَكَ عَلى ما كَانَ مِنكَ ولا أبالي) [أخرجه الترمذي (3540) وحسنه الألباني].
إن المؤمن إذا عمل العمل رجاء من الله أن يقبله ويثيبه عليه، وبعض الناس إنما يقصر رجاءه على ما يعمله في الوقت الحاضر ؛ فإذا عمل العمل نسيه. يقول ابن تيمية (رحمه الله): “تعلق الرجاء والخوف بالحاضر والماضي؛ لأن عاقبته المطلوبة والمكروهة مستقبلة، فهو يرجو أن يكون الله تقبل عمله فيثيبه عليه فيرحمه في المستقبل ويخاف أن لا يكون تقبله فيحرم ثوابه“. (ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، ج٧، ص ٤٥٢).
والرجاء ليس مقصوراً على الآخرة، بل هو حاصل في الأمور الدنيوية،فالإنسان قد يرجو من الله مالاً أو ولداً أو زواجاً، أو وظيفة أو زوال مرض، أو العثور على مفقود، كما جرى من نبي الله يعقوب عليه السلام حين قال: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [يوسف: ٨٧]. ورجاء الله في الأمور الدنيوية أمر مهم جداً؛ لأن المؤمن متى نقص رجاؤه بالله في أمر الدنيا وقع في الشرك الخفي الذي لا يكاد أحد يسلم منه إلا من عصمه الله تعالى (محمد صالح المنجد، كتاب الرجاء، ص54).
فعلى المؤمن أن يجمع بين الخوف والرجاء في عبوديته، حتى يتحقق له مطلوبه ومراده، وأن يبتعد عن القنوط من رحمة الله، وأن يحسن الظن بالله، وأن يعلم أن أعمال القلوب ترتبط ببعضها البعض، وإن الاهتمام بعمل قلبي واحد وترك غيره قد يوقع في المعصية والضلال.
المراجع: