عاممقالاتمقالات الرأيمقالات فكرية

قِيَمُ الإسلام الحاكمة لحركات التحرير والمقاومة

د. عطية عدلان

“إنّهم ليسوا قدوة لنا”: كلمة لشيخ المجاهدين عمر المختار، صاح بها في وجوه الجند الذين أرادوا قتل أسير من العدو على وجه المكافأة بالمثل للعدو الذي يقتل أسرى المسلمين، ولم يكن المختار بهذا الموقف الكبير الملهم يرتجل دستورًا للحركة، وإنّما كان يستلهم موادّ الدستور الإسلاميّ العظيم، فهذه الأمّة ليست ضائعة في الحياة بلا منهج ولا دستور؛ كيف وهي الأمة التي أُخْرِجت للناس؛ فكانت خير أمّة: “كُنْتُمْ ‌خَيْرَ ‌أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”، وهي الأمّة التي تشهد على الأمم بما معها من منهج وسط عدل: “وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ ‌أُمَّةً ‌وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ”؟

القوة والقدوة صنوان لا ينفصمان

هل نحن بحاجة إلى كبير جهد لندرك السرّ في مجيء هاتين الآيتين متواليتين بلا فاصل بينهما؟ على الرغم من اختلاف اللهجة والوجهة، الآية الأولى: “فَإِذَا ‌انْسَلَخَ ‌الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ”، والآية الثانية: “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ”، فالآية الأولى (آية السيف) بلغت المنتهى في الشدة على المشركين، والآية الثانية أوفت على الغاية في الرحمة واللين؛ ذلك لأنّ القتال لم يشرع للقتل في ذاته، وإنّما شرع لإماطة الفتنة التي يمارسها الشرك والكفر، فإذا تبددت الفتنة وانقشعت غمامتها رُفِعَ السيف، وإذا اعتزلها من أهل الكفر والشرك شخص فأعلن اجتنابه للقتال وطلب الأمان وجب على المسلمين – حتى ولو بقي على شركه – أن يؤمنوه، وإِذَنْ؛ فالدستور القرآنيّ الذي أوجب القتال لدفع العدوان وتحرير الإنسان وإماطة فتنة الكفر والشرك، هو ذاته الذي أوجب على المسلمين أن يكونوا قدوة للناس في رعاية وحماية حقوق الإنسان، وحَرَّم عليهم أن يسرفوا في سفك الدماء.

التقيد بالغاية المشروعة يقي من الممارسات الممنوعة

“حَتَّى لَا تَكُونَ فِتنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ” .. هذه هي الغاية التي من أجلها شرع القتال، ويترتب على ذلك وجوب التقيُّد بهذه الغاية؛ فلا يصح بِحَالٍ أن تتلبس المقاومة بظلم أو تعدٍّ، فمنهج الله تعالى لا يحابي أحدًا مهما كانت منزلته، لذلك وجدنا حِبَّ رسول الله وابنَ حِبِّه يتعرض من رسول الله لهذا التأنيب الشديد عندما تأَوَّلَ وقتل من نطق بالشهادتين: “يَا أُسَامَةُ: أَقَتَلتَهُ بَعدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟” قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا مِنَ القَتلِ، قال أسامة: “فَكَرَّرَهَا عَلَيَّ حَتَّى تَمَنَّيتُ أَنِّي لَم أَكُن أَسلَمتُ إِلَّا يَومَئِذٍ”، ونزلت: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَن أَلقَى إِلَيكُمُ السَّلَامَ لَستَ مُؤمِنًا تَبتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِن قَبلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيكُم فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا”، واللافت للنظر هذه اللفتة القرآنية الرحيمة: “كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا”، أي: تذكروا أنكم كنتم من قبل مثل هؤلاء الذين تسارعون إلى قتلهم إذا ظفرتم بهم، فمَنَّ الله عليكم واستنقذكم؛ فتبينوا إذَنْ ولا تحرموا عباد الله ما منَّ به عليكم.

الحرمة الأصلية مانعة من الإسراف

الأصل الذي اتفقت عليه الشرائع هو أنّ: “الإنسان بنيان الربّ؛ ملعونٌ مَن هَدَمَه”؛ فإذا وُجِدَ المسوغ الشرعيّ لقتاله دفعًا للفتنة وإعلاء لكلمة الله؛ فمِثْلَما وجب التَّقَيُّد بالغاية وجب التَّقَيُّد بالأصل، وذلك في كل المراحل، قبل القتال وأثناءه وبعده، فلا يجوز تعذيب الأسير ولا التمثيل بالقتيل؛ لأنّ الغاية عندنا لا تبرر الوسيلة، ولأنّ الخروج عن الأصل القديم استثناء حتَّمَتْه ضرورة القتال، والضرورة تُقَدَّرُ بقدْرِها، ولذلك كان دَيْدن رسول الله إذا بعث جيشًا أو سريَّة أن يهتف فيهم بهذه الموادّ الدستورية: “اغزُوا بِاسمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَن كَفَرَ بِاللهِ، اغزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغدِرُوا، وَلَا تَمثُلُوا، وَلَا تَقتُلُوا وَلِيدًا…”، وكذلك فعل أبوبكر: “… لاَ تَقتَلَنَّ امرَأَةً وَلاَ صَبِيًّا وَلاَ كَبِيرًا هَرِمًا، وَلاَ تَقطَعَنَّ شَجَرًا مُثمِرًا، وَلاَ تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلاَ تَعقِرَنَّ شَاةً وَلاَ بَعِيرًا إِلاَّ لِمَأكَلَةٍ، وَلاَ تُحرِقَنَّ نَحلًا وَلاَ تُغرِقَنَّهُ …”.

دستور الأخلاق لا ينحني للشرطيات الضاغطة

لا يجوز في شريعتنا الغدر، مهما كان المبرر الذي يُستدعَى لتسويغه، ويحرم بالقطع نكثُ العهود ونقضُ العقود: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌أَوْفُوا ‌بِالْعُقُودِ”، “وَأَوْفُوا ‌بِعَهْدِ ‌اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها” “وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ‌فَانْبِذْ ‌إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ”، وليس الانتقام من طبيعة الإسلام، ولا من شيم المسلمين الكرام، وقد شهد بذلك القريب والبعيد، انظر ماذا تقول زغريد هونكة في كتابها: (الله ليس كذلك)، تقول: “عرفنا صلاح الدين الذي أخزى قواد جيوش النصارى، فلم ينتقم قط من أسراهم الذين كانوا تحت رحمته ردًّا على خيانتهم وغدرهم وفظاعتهم التي ليس لها حد، ولقد أخزاهم صلاح الدين مرة أخرى حين تمكن من استرداد بيت المقدس، وكان الصليبيون قد انتزعوه من قبل بعد أن سفكوا دماء أهله في مذبحة لا تدانيها مذبحة وحشية وقسوة، فلم يسفك دم سكانها من النصارى انتقامًا لسفك دم المسلمين، بل إنه شملهم بمروءته، وأسبغ عليهم من جوده ورحمته، ضاربًا المثل في التخلق بروح الفروسية العالية”، وبمثل هذه الشهادة أدلى الكثيرون من المستشرقين.

مذهب الحنفاء: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”

لا ريب أنّ من اعتدى على المدنيين؛ فقتل الأبرياء واغتصب النساء وأسرف في الفساد والإفساد .. لا ريب في وجوب محاسبته؛ ردعًا له وزجرًا لأمثاله، وإكرامًا وتعظيمًا لحقِّ الإنسان – ولاسيما المسلم – في صيانة دمه وعرضه وماله، وإقامةً لحدود الله، أمّا من سوى ذلك – حتى لو كان من قَبْلُ محاربًا – إذا وضع السلاح قوبل بالتأمين وإطلاق السراح، صحيح أنّه ليس له حقّ في العودة إلى ما كان عليه من مكانة لم يحافظ عليها، لكنّ منهج نبيّنا يعطيه حقّ الحياة ومعها حقّ الحرية، فإن ظهرت توبته وبدا صلاحه وعُرِفَ بالتجربة إخلاصُه امتهد السبيل للوثوق به، والراجح أنّ التصريح النبويّ الكريم: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” لم يكن خاصًّا بأهل مكة، وإنّما هو شريعة مستمرة؛ هذا هو طريقنا وهذا هو ديننا؛ فمن حاد عنه فقد زايد على الإسلام، والله المستعان.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى