الإسلام الساكن.
الأستاذ: محمد خليفة نصر
الاسلام عند سيد قطب نظام حركة اجتماعية وضابط سلوك فردي، بينما يبدو عند غيره محافظًا لا يحمل روحًا ثوريًا، وساكنًا لا يُحرك ولا يتحرك. ولذا كتبت فيما مضى ما نصه: “سيد قطب أغزر علمًا وأعمق فهمًا من الشيخ شعراوي وعبد الوهاب المسيري (أصحاب الإسلام الساكن)”! واستُقبل هذا الموقف باستغراب يستدعي رأي المكتبة في الموضوع.
الشعراوي فقير لما عند المسيري، والمسيري فقير لما عند الشعراوي، لكن سيد لم يكن فقيرًا لما عند أي منهما، وإلا كان مثلهما: مسلم ساكن أو ساكت، وربما حتى موظف كبير في دولة تتصدى للإسلام وتحارب الإسلاميين دون تمييز، فتساوي بينهم في الظلم وتمارس عليهم نفس العدوان. لا بد إذن من أن أبين جوانب القصور لدى أصحاب الإسلام الساكن بداية، ثم ابين عمق الإسلام واتساعه وحيويته عند سيد قطب بعد ذلك.
أولاً. عبد الوهاب المسيري.
عندما تقرأ للمسيري عبارة من نوع: “من أكبر آفات البحث العلمي في العالم العربي انفصاله عن المعجم الحضاري الإسلامي” ، تعلم إدراكه العميق لبعض جذور الأزمة التي نعيشها، ولا سيما فيما يتعلق بالتعليم الذي يعول عليه في كل شيء. وهذا الادراك لجذور الأزمة قاد المسيري إلى الشق الثاني منها وهو متمثل، حسب قوله، في “افتراض أن ثمة معرفة عالمية علينا تحصيلها متناسين تراثنا وهويتنا” .
المسيري لا يتناسى تراثنا بل يفقده تمامًا عندما يرَكن إلى أفكار من نوع “العلمانية الشاملة” و”العلمانية الجزئية”، وهو ما يمثل انفصالاً عن معجمنا الحضاري الإسلامي الذي يفصل بين “الدين” و”الدنيا” بما يغنينا عن فكرة العلمانية، التي رفضها -جملة وتفصيلاً- كُتَّاب كبار من نوع محمد عابد الجابري.
ــــ ما هي إشكالية المسيري؟
الإجابة ستكون بقلم المسيري نفسه الذي كتب في “رحلتي الفكرية” ما نصه: “لم أكن أعرف الكثير عن الإسلام”! وبعد هذه العبارة استدرك مضيفًا بين قوسين: (إلا ما يعرفه أي مسلم يمارس شعائر عقيدته دون تعمق في الأبعاد الفلسفية والمعرفية)!
الإسلام نظام كامل؛ فهو منهج عبادة ومنهج تفكير معًا. لكن الإسلام عند المسيري لم يكن منهج تفكير، بل كان منهج عبادات (على طريقة أهل دمنهور)، ولذا تجول المسيري بين الماركسية والوجودية والالحاد حتى اكتشف اسلام غير الإسلام المعهود. وكان ذلك عندما طُلب منه كتابة شيء عن مالكوم اكس الذي قُتل سنة 1965 بعد أن ترك عالم الجريمة ودخل الإسلام ليصبح أبرز قادة “أمة الإسلام” في الولايات المتحدة.
وحتى يكتب المسيري عن مالكوم اكس قرأ سيرته فانتهى بالتعرف على اسلام ثوري لا علاقة له بالإسلام الساكن والساكت، في دمنهور والبلاد العربية. وفي وصف الأثر الذي تركته تجربة مالكوم في نفسه قال المسيري: “بعد قراءة سيرة مالكوم أدركت مدى عمق أثر الإسلام فيه… كما أدركت دور الإسلام التنويري التثويري في حياته”.
مالكوم قُتل سنة 1965، وسيد قطب قُتل سنة 1966، وكان السبب المباشر في قتل الرجلين هو هشاشة البناء الداخلي للأمة المسلمة، في البلاد العربية وفي غيرها. ولا اعتقد أن هناك من توقف عند أن قاتل مالكوم كان من أعضاء “أمة الإسلام” في الولايات المتحدة، وأن من قتل سيد قطب كان من المنتسبين لأمة الإسلام في مصر!
للأسف لم يتوقف المسيري عند الفكر التنويري-التثويري عند سيد قطب، بالرغم من أنه أعمق من فكر مالكوم اكس وأعمق من فكر كل المنتسبين لأمة الإسلام في الولايات المتحدة. فهم المسيري السطحي للإسلام هو ما جعل موقفه من سيد قطب وأفكاره موقف المتحفظ الحائر.
وأنا انتقد سطحية عبد الوهاب المسيري مقارنة بسيد قطب، وإلا المسيري من فطاحلة المسلمين الذين فهموا الغرب حضارة وثقافة، وراءوا الصلة الوثيقة بين علل الغرب المادية والروحية. لكن فهم الغرب على ذاك النحو ينقصه فهم الإسلام كما فهمه سيد قطب وليس كما يفهمه أي عالم تقليدي أو حداثي آخر ولو كان من وزن الشيخ شعراوي.
وقبل أن أتحول لنقد الشيخ شعراوي، لا بد من اثبات سطحية فهم المسيري للإسلام انطلاقًا مما كتبه هو نفسه في سياق مقارنته بين المجتمع العربي المصري والمجتمع الغربي الأمريكي. إذ يصف المسيري المجتمع الإسلامي أو المصري بالمجتمع “التراحمي” ويصف المجتمع الأمريكي الغربي بالمجتمع “التعاقدي”، وفي هذا غفلة عن تظافر التعاقد والتراحم في المجتمع الإسلامي.
ويظهر امتزاج التراحم والتعاقد عندنا في قوله تعالى: “ومن آيته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون”. المودة والرحمة هنا مرتبطة بعقد النكاح، ومتفرعة عن ذاك الميثاق المكون للأسرة، والموصوف في قوله تعالى “وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا”. هذا الميثاق ينظر له في الغرب على أنه مجرد ورقة – A piece of paper – لغياب القدسية التي يضفيها الدين على العلاقة الزواجية.
ومما غفل عنه المسيري كذلك هو أن أول دولة تأسست في تاريخ الإنسانية على عقد هي دولة النبي عليه الصلاة في المدينة المنورة. لقد قامت تلك “المدينة-الدولة” على عقد أسمه “البيعة”، والذي ابرمه عليه الصلاة والسلام مع الأنصار.
وقد بايع كل الصحابة النبي عليه الصلاة والسلام بصيغ متعددة، وبموجبها باعوا أموالهم وأنفسهم في مقابل الجنة. وكان الله طرفًا في العقد: “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم..”. والله ضامن لمقابل البيع وهو الجنة: “إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم بأن لهم الجنة…” (ولذا سُمي التعاقد بالبيعة)!
وتفرع عن هذا العقد الذي تأسست عليه المدينة-الدولة تقسيم جديد للعالم فأصبح العالم مقسمًا منذ ذلك اليوم إلى مسلمين وغير مسلمين. ومن هذا التقسيم ولدت فكرة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وهي أهم قاعدة اجتماعية للتراحم والتكافل بين المسلمين الذين شببهم النبي عليه الصلاة والسلام بالجسد الواحد، عندما قال “ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهن كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”. البيعة هي العقد الذي ميز المسلمين عن غيرهم من بني البشر، وجعلهم كالجسد الواحد في التراحم والتعاطف عندما جمعهم في مكان واحد (بالهجرة إلى المدينة)، وتحت قيادة رجل واحد، هو النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان السلم الاجتماعي هو مشروع المدينة-الدولة. وتمثل ذلك في عقد آخر أسمه “الصحيفة” التي كانت بمثابة النظام الأساسي لتعايش المسلمين وغير المسلمين في المدينة وما حولها. كانت الصحيفة عقد لتنظيم العيش المشترك والدفاع عن المدينة بما فيها من مسلمين وغير مسلمين، لكن الغالبية العظمى من المسلمين مازالوا اليوم غافلين عن هذا الجانب النظري من الإسلام، حتى ظن المسيري أن المجتمع المسلم مجتمع تراحم وليس مجتمع تعاقد. وهذا مما لا يمكن أن يغفل عنه إنسان بعلم الشيخ شعراوي، غير أن الشيخ ينقصه ما عند المسيري فوقع فيما لا يقع فيه أمثال سيد قطب.
ثانيًا. الشيخ شعراوي.
قال عنه الشيخ محمد الغزالي: “من خيرة من يفسرون القرآن تفسيرًا بيانيًا… وله قدرة على تبسيط المعاني وتوصيلها إلى أذهان الجماهير…”. وهذه الكفاءات جعلت منه نجمًا على كافة شاشات التلفاز في البلاد العربية. وقد ساعد على ذلك عدم خوضه في الشأن السياسي بشكل يزعج الأنظمة أو يحرض الجماهير عليها، وعلى فسادها. وهذا جيد لو أن الشعراوي قد التزم هذا الخط طوال حياته وبقي في نطاق التفسير والوعظ، بحسب التفسير من علوم القرآن، والوعظ من أشرف المهام التي قد يتقلدها المسلم. ولكن الأمر لم يكن على ذاك النحو.
عندما مات عبد الناصر (1970) أربع سنوات بعد قتل سيد قطب رثاه الشعراوي قائلاً: “وضع البطل جمال بصماته الإنسانية على التاريخ المعاصر، ولذلك لن تجرؤ قوة على الأرض أن تزحزح المظلومين عمّا لقنهم جمال من مبادئ…”! وفي هذا إغفال لكون عبد الناصر هو الطاغوت الذي قتل مفكرين كبار من نوع سيد قطب وعبد القادر عودة عندما كانت الأمة في أمس الحاجة لأمثالهم!
وعندما انقلب السادات على عبد الناصر، وطفق يرفع شعارات من نوع “العلم والإيمان” كان الشعراوي من بين الذين ساروا في ركابه، فأصبح وزيرًا للأوقاف بين 1976-1978. وفي هذه الحقبة جرت زيارة السادات للقدس وابرم اتفاق كامب ديفيد، وقامت ثورة الخبز، والشيخ شعراوي ساكت، بل إلى جانب السادات يبرر سياسته ويدافع عنه. ومن دفاعه عنه قوله في استجواب مشهور في مجلس الشعب: “لو كان لي من الأمر شيء لحكمت لهذا الرجل الذي رفعنا تلك الرفعة، وانتشلنا مما كنا فيه إلى قمة ألا يسأل عما يفعل”.
وفي خطبة الجمعة التالية سأله الشيخ كشك من على المنبر: “ماذا تقول يا شعراوي لربك لما وقفت في مجلس الشعب وقلت: لو كان بيدي شيء من الأمر لرفعت هذا الحاكم إلى قمة لا يسأل عما يفعل…؟ من الذي لا يسأل عما يفعل يا شعراوي؟!
وهنا تحضرني شهادة احتوتها المكتبة لمالك بن نبي بخصوص أحد علماء الجزائر الذي كان -في نظر بن نبي- ممن ينفع لإلقاء خطبة بليغة في القاهرة أو صنعاء، لكنه لا ينفع للتعامل مع سياسة فرنسا ومكرها! وكان هذا هو الواقع بالنسبة للشيخ شعراوي: شيخ بياني بليغ ومفسر للقرآن ضليع، لكن عدم تمكنه مما تمكن منه سيد قطب جعله يخفق في التعامل مع الطاغوت الذي استخدمه لأغراض سياسية غير نبيلة، منها تبرير شروط صندوق النقد الدولي التي تزيد الفقير فقرًا! والمقارنة الواجبة هنا ليست بين الشعراوي والمسيري أو مالك بن نبي، وإنما بين الشيخ شعراوي صاحب الفهم البياني للقرآن وسيد قطب صاحب الفهم الثوري للإيمان والفهم الحركي للإسلام.
ثالثًا. سيد قطب.
في تفسير الآية 47 من سورة النور التي نصها: “ويقولون أمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين” يمهد سيد قطب للتفسير بعبارة “الإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية”. وبعد اثبات الحركة ونفي السلبية عن العقيدة الإسلامية يضيف: “منهج الإسلام الواضح في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة سلوكية واقعية، وتحويل هذه الحركة إلى عادة ثابتة أو قانون. مع استحياء الدافع الشعوري الأول في كل حركة، لتبقى حية متصلة بالينبوع الأصيل”. وهذا التفسير للآية محل النظر مكون من العناصر الآتية؛
• منهج الإسلام في التربية ينطلق من العقيدة وآدابها،
• المنهج يُحدث تأثيرًا على مستوى الشعور الباطن ( = اللاشعور أو اللاوعي)،
• أثر العقيدة، التي وصلت إلى منطقة اللاشعور، يظهر في سلوك المؤمن،
• العقيدة إذن هي الموجه للسلوك الذي يعكس درجة الإيمان أو الإحسان.
• بهذا الشكل يصبح انضباط المسلم على المنهج تلقائي أو عادة ثابتة ( = قانون)،
• ومن لم يستقم سلوكه على هذا المنهج ويحقق تلك النتيجة فليس من المؤمنين.
سيد تجاوز البيان عند الشعراوي والنقد عند المسيري بإضافة علم النفس إلى التفسير، وبشكل جعله يتجاوز -في نظري- فرويد ويونغ. استقرار الايمان في منطقة اللاشعور هو ما يجعل حركة المؤمن ثورية بشكل تلقائي.
هذا النوع من التلقائية ظهر عند سيد عندما قرر أن مقصد الإسلام ليس “أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو فارسي إلى طاغوت عربي. فالطاغوت كله طاغوت”! لقد كفر سيد بالطاغوت فقتله الطاغوت طبقًا لما يقع في مستقر العادة، لكن الارتباط بين سكن العقيدة في منطقة اللاشعور وتحقق الشهادة لسيد لم يكن مما رآه المسيري والشعراوي.
الكفر بالطاغوت هو ما حول مالكوم اكس من مجرم يقبع في السجن إلى أكبر متحدث باسم الإسلام الذي سكن عنده في منطقة اللاشعور، إلا أن الناس لا ترى ما حدث من تحول في حياة مالكوم اكس مشروحًا نظريًا في فكر سيد قطب. أما المكتبة فتشهد أن السبب في تحول مالكوم واستشهاد سيد هو الكفر بالطاغوت. وهذا النوع من الكفر هو ما يعجز عنه، او عن الإعلان عنه، مشايخ ومفكرين من نوع الشيخ شعراوي والدكتور المسيري. إذا كنت في شك من هذا ادخل المكتبة واعد قراءة الظلال والمعالم وستصل إلى نفس النتيجة.